أيها الشاعر.. خذ قصائدك واستراتيجيتك وابتعد نادما

TT

أول مطبوعة تلاقفتها الايدي في بغداد بعد تحريرها كانت جريدة طريق الشعب، ورأينا ضابط شرطة مرور يقرأ تلك المطبوعة دون وجل، ومن المعروف لدينا نحن العراقيين، أن قراءة مطبوعة الحزب الشيوعي العراقي من قبل عسكري عراقي كضابط الشرطة الذي رأيناه على شاشات التلفزة، يعني نقل أخينا الى العالم الاخر... بلا محاكمة أو أخذ ورد أو وساطة من احد، وهذا مفهوم لنا من نظام جاء لمحو كل رأي وصاحب رأي، ولكن غير المفهوم لي موقف شاعر عراقي معروف، من المحسوبين على الشيوعيين، يطلب من أهلنا في العراق في مقال حاد النبرة قرأته في إحدى الصحف اللندنية، أن يبدأوا فوراً بحرب التحرير الشعبية، للتحرر من المحتل الامريكي والبريطاني. وفي ذات العدد من الصحيفة نُشر بيان يبشر بمولد جيش التحرير العراقي، والمنشور يحمل ذات المفردات التي استخدمها صدام في بياناته الحربية طوال العقود الماضية، وتضمن المنشور مزاعم عن عمليات عسكرية أوقعت كذا وكذا من الخسائر بقوات المحتل الامريكي. وتزداد دهشتنا عندما نرى مراسل إحدى الفضائيات العربية يلتقي مجموعة من الرجال في مدينة ديالى في العراق، قريباً من بناية كتب على واجهتها (مقر الحزب الشيوعي العراقي في منطقة ديالى)، يسألهم عن احوالهم، فيرد احدهم عليه أنهم في عهد الديمقراطية الجديد، وسيناضلون كغيرهم من الاحزاب (وقال خطأ) مثل حزب البعث (وصحح قوله بسرعة) أقصد الاحزاب الوطنية الاخرى، ولا أعني الحزب المقبور، سنناضل من أجل بناء وطن حر وسعيد.

ما قاله ابن ديالى مفهوم وهذا حقه الطبيعي في وطنه، ولكن غير المفهوم أن يبادر الشاعر المتنعم بديمقراطية توني بلير الى امور كهذه. فهو بعد كل الذي عاناه العراقيون، يطالبهم بحرب شعبية لاتبقي ولا تذر من أخوتنا وابنائهم واهلنا الذين أفنتهم الحروب والمغامرات الهوجاء وما عانوه من اجتهاد المجتهدين، وتركتهم السلطة المقبورة يبحثون عن الماء النقي فلا يجدون، ويسألون عن اللقمة الحلال فلا يجدون. وما حدث من سلب ونهب من بعضهم ليس إلا دليلاً على هذا. ومن قال إنهم ليسوا عراقيين فهو يكابر على جراحه وألمه برؤية الحال التي وصل إليها أهله وأخوته، وليس في الامر مفاجأة ان نذكر بأن البعثيين الذين قهروه قهرونا جميعاً في 1963 وفي 1968، وأقاموا سجون الاعماق التي يقضي فيها أهلنا من المسجونيين الآن جوعاً وعطشاً دون أن يهتدي إليهم الباحثون بمساعدة القوات الامريكية والبريطانية، ولا يزال أهلنا يحرثون الارض باحثين في المقابر الجماعية عن أشلاء أولادهم وابائهم وبناتهم التي أكل بعضها حيوان البرية.

انني اتساءل: الم ترتجف يد الشاعر وهو يطالب العراقيين بقتل هؤلاء الذين جاءوا ليحررونا؟ وهذا ما فعلوه حقا، وله أن يرى أهلنا مثل البلابل المُطلقة من اقفاصها لاتعرف كيف تعبر عن بهجتها وفرحها بهذه الحرية غير الركض مسافات طويلة على القدمين المجردتين من مدينة بغداد حتى مدينة كربلاء والنجف، ومن الكوت حتى كربلاء والنجف في كرنفال قل مثيله في كل تاريخ البشرية، ولم نر في حياتنا التي عشناها شعباً يعبر عن فرحته بزوال الطاغية مثل شعبنا.

الحلفاء لم تكتمل مهمتهم بعد، ويا سيدي الشاعر، انت تعرف ونحن نعرف ان الحياة لا تحمل أي معنى لصدام وجماعته بعيداً عن كرسي الحكم، فهو مثل رغبة شاعر غير موهوب بكتابة قصيدة جيدة، وأنهم نزلوا تحت الارض كما فعلوا عام 1963، وانهم سيظهرون مرة أخرى حتماً قبل أن تصل آخر القطعات الامريكية عند الجلاء الى قواعدها التي انطلقت منها، ليقتلوا أضعاف أضعاف الذين قتلوهم بعد فشل انتفاضة آذار المجيدة عام 1991. وعندها لن تستطيع كل قصائد الشاعر أن توقف انتقامهم من شعب عبر عن نفسه عند احساسه بضعف الظالم، ونزل الى الشوارع ليسقط تمثالاً هنا أو صورة هناك، ومتى سينتهي ذلك كله ويعود الى عقله من غوى الأذى بالناس سيقف الشعب كله ليقول للأمريكيين: شكراً لكم.. لقد اتفقت مصلحتكم ومصلحتنا بسقوط السلطة القمعية. وسيذكر شعبنا لكم الى الابد ما قدمتموه لنا من خدمات، ولكننا شعب اعتدنا أن نتعامل مع اصدقائنا بقاماتنا السامقة ولا نقبل أن يقول أحد عنا انكم محتلون لبلادنا، فهذا لايليق بكم ولا بنا وهم سيفعلون ما نريد، ولا أظن ذلك ببعيد ان شاء الله، ووقت ذاك على الشاعر أن يتبرأ مما كتبه هذه الايام.

*كاتب عراقي مقيم بالمغرب

[email protected]