الجريمة والعقاب

TT

تناول الاستاذ عبد الرحمن الراشد في مقالين متتاليين، السفير العراقي السابق لدى الامم المتحدة السيد محمد الدوري والمقابلات التي اجراها مع «العربية». وكان رئيس التحرير اكثر ميلاً الى التأنيب لديبلوماسي عمل في خدمة النظام العراقي في الامم المتحدة، اولاً في جنيف، واخيراً في نيويورك. وقبل يومين التقيت السفير الدوري في دبي للمرة الاولى، ولم يكن انطباعي الشخصي مختلفاً عن انطباعي «التلفزيوني» او الاعلامي، وهو ان الرجل ديبلوماسي في حجم العصفور. الدوري، يغلب عليه التأدب ومظاهر المعرفة واللياقة.

ولست في معرض الدفاع عن السفير الدوري لمجرد اننا التقينا لدقائق في ردهة احد فنادق دبي. لكنني احب ان اكرر ما كتبته في اللحظات الاولى لسقوط النظام، وهو ان العراق الآن في حاجة الى التسامح قبل الكهرباء والماء، ليس التسامح مع العتاة والمجرمين والجلادين وابطال المقابر الجماعية، ولكن مع آلاف البشر الذين وجدوا انفسهم في جمهورية صدام حسين بلا اي خيار، سوى خيار المنفى او الموت او الانتساب الى الجمهورية. وقد يكون محمد الدوري بريئاً من اي دم عراقي او قد لا يكون، لكنني لا اعتقد انه كان امام خيار حقيقي، ما بين الوظيفة في الخارجية العراقية او تجربة اللجوء السياسي في العالم العربي. وقد قال لي الزميل فؤاد مطر ايام مصر عبد الناصر ان الذل الذي يلاقيه اللاجئون السياسيون العرب نهاية كل شهر في مكاتب المخابرات، اقل بكثير من احكام الاعدام الصادرة في حقهم في بلدانهم.

وقد كان صدام حسين نفسه بين هؤلاء. وكان يتردد على صاحب مطعم مصري بسيط اتفق معه على ان «يقسّط» له ثمن الوجبات التي يتناولها لديه. وعندما اصبح صدام امبراطور العراق دعا صاحب المطعم الى بغداد وجعله يفتتح افخم مطاعمها. وهو المطعم الذي دمر بأربع قنابل زنتها 4 آلاف طن لأنه قيل ان صدام وولديه كانوا يتناولون الطعام فيه عندما شوهدوا للمرة الاخيرة.

العراق يعيد الآن قولبة نفسه، باشراف اميركي مباشر ورغبة اميركية مباشرة. ومعروف ان ضحايا النظام لم يكونوا فقط بين خصومه بل كانوا خصوصاً بين انصاره وأقرانه ومحازبيه وأقربائه. ولا يمكن ان نبعد او ان نلغي كل من انتسب الى النظام، لسبب او لآخر. فقد كان هو الموت وهو الحياة وهو الفقر وهو الغنى. هو العبودية وهو العبودية ايضا. ولم يكن ثمة خيار امام احد. لذلك يجب فصل المجرمين والجلادين والعتاة والمهووسين بالدم والتعذيب وهواة التنكيل وبقر بطون الحوامل والمتمتعين بصراخ ضحايا الاغتصاب والمفاخرين بالانتماء الى فدائيي عدي او قصي او صدام.. يجب فصل هؤلاء عن مجموعة كبيرة من الناس الذين اصبحوا اسرى دورة الحياة والموت في بغداد. هناك صف طويل من الرجال الذين لم تلوث ايديهم بالدماء ولو انهم وجدوا انفسهم في مواقع ظاهرة. وعلى سبيل المثال لا يرد اسم رئيس البرلمان سعدون حمادي بين المطلوبين برغم انه، نظرياً، الرجل الثاني في الدولة. مثل كل نظام، هناك السفاكون بالاختيار والطبع والطبيعة، وهناك الموظفون الذين دفعهم الف ظرف والف سبب الى ان يكونوا جزءاً من الدولة. والأرجح ان الفريقين معروفون تماماً لدى العراقيين. وما حدث في العراق حدث في الاتحاد السوفياتي وفي المانيا الشرقية وفي رومانيا من قبل. وما نتمناه هو الا يفلت المجرم الحقيقي من العقاب، ولكن ايضاً الا يعاقب اي بريء على ما لم يرتكب.