وقفة مع باعة الوهم الأمريكي

TT

بقدر ما كنت اشفق على الشارع العربي من تحليلات وآراء الخبراء العسكريين والمحللين السياسيين الذين اتقنوا خلال حرب العراق الاخيرة لعبة دغدغة العواطف وتخدير الناس بمعلومات وافكار حالمة تنم ـ في احسن الاحوال ـ عن انقطاع تام عن ما يجري في العالم من حولهم، احس بالشفقة ذاتها الممزوجة بالرعب من المحاولات الجارية في الاعلام العربي بعد سقوط بغداد لتسويق المشروع الامريكي، وتقديمه مدخلا حقيقيا للاصلاح، وفرصة سانحة للنهوض والتحرر.

وابادر هنا بالقول انني اتفق مع الزميل عبد الرحمن الراشد في ملاحظته الصائبة بان الذين ينتقدون الاستراتيجيات الامريكية بكونها تهدف الى نشر الديمقراطية وازاحة الاستبداد واصلاح التعليم انما يروجون من حيث لا يدرون لهذه الاستراتيجيات، باعتبار تلك متطلبات عربية موضوعية.

ولذا فانني اسجل في البداية اختلافي الجذري مع التحليل السائد للمشروع الامريكي، الذي يحتاج لوقفة تحليل عميقة، نادرا ما نراها في السيل العرم من الكتابات الرائجة هذه الايام حول مرحلة ما بعد احتلال العراق.

وقد بدا لي ان هذه الكتابات تتسم بنفس الخصائص والسمات التي تطبع الخطاب الرومانسي الحالم حتى ولو ادعت ميزات العقلانية والواقعية (وهي عبارات هشة من المنظور الابستمولوجي كما يعرف اهل الاختصاص الفلسفي) وهذه السمات هي التسرع في القراءة والتحليل وتكرير المسبقات الخاطئة وتكرير الشعارات البراقة والمواقف الايديولوجية الآنية.

ولنبدأ بتلخيص اطروحة المدرسة العقلانية الواقعية التي تسوق راهنا للمشروع الامريكي، وابرز منطلقاتها هي:

ـ المماهاة بين حاجة المجتمع العربي للتحديث والانفتاح الديمقراطي والتنمية الناجعة والاندماج النشط في المنظومة الاقتصادية العالمية من جهة والاختراق الامريكي المتزايد للمنطقة الذي يتخذ شكل مشروع هيمنة لفرض ما يقدم بأنه النموذج الامريكي من جهة اخرى.

ـ اعتبار واقع الهيمنة الامريكية على العالم مرجعية استراتيجية جديدة لا يمكن الخروج عنها، بل يتعين الاندماج فيها لانتزاع الحقوق العربية المسلوبة، بدل نهج المقاومة الذي استنفد اغراضه، وصار شعارا من شعارات الماضي المهزوم.

ـ ان على العرب ان يغيروا جذريا افقهم الاستراتيجي والفكري الذي تحدد طيلة نصف قرن بالمشروع القومي العربي الذي انهدت آخر لبناته مع انهيار نظام البعث العراقي، وفي مقابله يتعين التفكير في خيارات بديلة، على رأسها «دولة السوق» المندمجة في نظام العولمة.

وبطبيعة الامر، يتغير المنطق التراتبي والعلائقي الرابط بين هذه الافكار الثلاثة حسب الكتاب والمفكرين، باعتبار اننا لسنا امام تيار ايديولوجي بعينه، وانما ديناميكية واسعة بخلفيات متباينة.

ولست لاناقش هذه الاطروحة في جانبها النقدي لتجربة المشروع القومي ولاداء النظام الاقليمي العربي خلال العقود الستة الماضية فهو نقد وجيه في الغالب ان خلا من التحامل المغرض، وانما سأكتفي في هذا الحيز بتبيان ان اصحاب هذه الاطروحة ينقصهم ادنى الاطلاع على ادبيات الفكر الاستراتيجي الامريكي الجديد، حتى ولو كانت منشورة ومتوفرة للقارئ المطلع اليقظ وانما لا تتجاوز معلوماتهم في الغالب شاشات الفضائيات الامريكية التي لا تقل تحيزا وحماسا عن فضائياتنا الصحَّافية.

اكتب هذا الكلام وقد فرغت لتوي من قراءة كتاب «الحرب على العراق استبدادية صدام ومهمة امريكا»، وهو كتاب مثير صدر مؤخرا لرمزين من رموز مدرسة المحافظين الجدد المتحكمة في مركز القرار الامريكي وهما لورانس كابلان ووليام كريستول.

والكتاب ـ الذي لا يتسع المقام لعرضه ـ يقدم شرحا واضحا وصريحا للحقيقة الاستراتيجية الامريكية الجديدة ومنزلة العراق في رهاناتها الكونية الواسعة ويبين الكتاب كيف انتقلت الرؤية الاستراتيجية الامريكية من الواقعية الضيقة (في عهد بوش الاب) الى الليبرالية المتفائلة (في عهد كلينتون)، الى شكل جديد من الاممية يقوم على ثلاثة مقومات هي:

ـ من الردع الى الضربة الاستباقية.

ـ من الاحتواء الى تغيير الانظمة.

ـ من الازدواجية الى الهيمنة.

ولا نحتاج الى ايضاح حقيقة رددها العالم كله، وهي ان هذه المبادئ الثلاثة تنسف بصفة راديكالية كامل تركة القانون الدولي الذي هو التعبير المعياري عن مكاسب قرون اربعة من فكر النهضة وقيم التنوير والتحديث والليبرالية وهي القيم التي يتوهم باعة الوهم الامريكي انها اساس ايديولوجيا الانتشار الامريكي الراهن.

ان المأزق الاساسي الذي تؤدي اليه هذه العقيدة الاستراتيجية الجديدة هو الجمع بين نكوص الى نموذج سيادي تقليدي ذي مضمون امبراطوري وخرق لكل القيود التي بلورها القانون الدولي لضبط العلاقات بين الدول القومية، وهو الخرق الذي يبرر بنهاية الدول القومية في عصر العولمة.

ويؤدي البراديغم الثقافي (صراع الحضارات) دور الجسرين النموذجيين المتعارضين، مما يزيد من سعة الخطورة التي تطبع هذه العقيدة الاستراتيجية القائمة على تمجيد القوة والعنف وتشريع الهيمنة.

واذا كان من المسموح به تقديم نصيحة لمروجي المشروع الامريكي، فلا اقل من ان يطلعوا على ادبيات «مشروع القرن الامريكي الجديد» وهو عبارة عن مبادرة تعود لسنة 1997 اتخذت شكل تنظيم من ابرز مؤسسيه جب بوش (اخو الرئيس) وديك تشيني (نائبه)، بالاضافة الى وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول فولفويتز.

وقد نعت احد المفكرين الاوروبيين ادبيات هذا المشروع بـ «كفاحي» جديد (بالاشارة الى كتاب الزعيم النازي الالماني هتلر).

وقد رجعت بنفسي الى جزء من هذه الادبيات وهي متوفرة ومتاحة على موقع المشروع في شكبة الانترنت، وبدا لي اننا امام خطر عالمي حقيقي يفسر طبيعة القطيعة المتزايدة بين الولايات المتحدة وحلفائها الاوروبيين.

ولهذه المدرسة منابر فكرية واعلامية مثل «ناشيونال رفيو» و«كفنتري» و«ذا نيو ريبوبليك» كما لها مؤسسات رأي وبحث ابرزها «امريكا انتربرايز انستتيوت» التي يطل منها بانتظام رموز ادارة بوش.

وبما ان المقام لا يتسع لعرض جانب من آراء هذه المدرسة (وقد نعود اليها في مناسبة قادمة)، الا اننا نكتفي بالاشارة الى ان خلفيتها الفكرية تعود للفيلسوف الالماني الاصل ليو شتراوس (المتوفى سنة 1973 في الولايات المتحدة بعد ان هاجر اليها عام 1938)، وهو كما هو معروف من اصل يهودي وقد تتلمذ على يد هايدغر وتأثر باستاذه المفكر القومي النازي كارل سميث. وقد امتد تأثير شتراوس في الفكر السياسي والاستراتيجي الاميركي من خلال تلميذه آلان بلوم الذي هو المعلم الروحي لجيل المحافظين الجدد.

وتقوم نظرية شتراوس ـ بلوم السياسية على فكرة اعتبار السياسة النشاط البشري الاساس الذي يتحكم في باقي مناحي الحياة ويحق له صياغتها. والسياسة تتحدد بالعلاقة بين الصديق والعدو ويشكل السلم استثناء في حركيتها المتسمة بالحرب الدائمة من اجل فرض النموذج القيمي والثقافي الذي يستحق السيادة والهيمنة. ومن ثم النكوص الى مفهوم «الحرب العادلة» بالمعنى اللاهوتي للعبارة، ورفض تعددية القيم وحق الاختلاف الحضاري الذي اعتبره شتراوس وبلوم خطرا على النموذج الامريكي الذي هو التجسيد الاوحد لجوهر الانسان الحر.

ذلك جانب يسير من هذه النظرية التي بدأت تتجسد في العقيدة الاستراتيجية الامريكية. وكما هو واضح عزفنا عن تتبع العلاقات المعروفة بين اركان هذه المدرسة والمؤسسة الصهيونية واليمين الاسرائيلي وآثرنا تتبع خيوطها الفكرية حتى لا نرمى بالعاطفية والشعاراتية. ولنا عودة قادمة للموضوع باذن الله.