فرنسا تلطم وجهها.. بيدها!

TT

إضافة إلى امتلاك القنبلة النووية وأسلحة الدمار الشامل والسيطرة الكلية على سوق السلاح في العالم، لجأت بعض الدول العظمى، إلى استثمار الذخيرة الفكرية التي مكنت الغرب من تحقيق التفوق العلمي والاقتصادي، إلى درجة أن تلك الذخيرة لعبت دور الدافع، ووظيفة الحجة القوية والدامغة، وبالتالي تكون تلك الدول قد سعت إلى حد هذه الساعة في ممارسة الشيء ونقيضه، ولكن من دون أن تحدث نشازا ظاهريا بين فكرها وأدائها السياسي الخارجي.

هذا مع العلم، أن علاقة العالم الغربي بقيمه هي علاقة جدلية يغلب عليها التوظيف النفعي، وهو ما يؤدي في حالات كثيرة إلى تشويه تلك القيم عبر الاعتداء عليها وانتهاكها باسم الدفاع عنها.

وفي هذا الإطار، يمكننا أن نضرب أكثر من مثال، ونتوقف عند أكثر من دولة عظمى، فالولايات المتحدة الأمريكية مثلا جعلت من الديمقراطية كقيمة وكمشروع وكعقد اجتماعي، حجة لمقاومة الديكتاتوريات العربية، وتغليب حكم الشعب في حكومة بديلة. ويعلم الكل أن الديمقراطية كهدف تم توظيفها لخدمة هدف استراتيجي معروف يتمثل في السيطرة على احتياطي النفط العراقي والشرق أوسطي في المدى القريب والمتوسط.

فرنسا من جهتها، رغم سعيها إلى ممارسة الاستثناء السياسي على غرار الاستثناء الثقافي، فإنها واقعيا، لم تستطع أن تترجم ما تدعيه، لذلك فهي تسلك نهج الولايات المتحدة الأمريكية ولكن بأكثر ذكاء وبرقة مقتبسة مما يسمى بـ le raffinement français.

ويظهر التأثر الفرنسي الشديد بالسياسة الوقائية الأمريكية في التصريحات التي صدرت في الأيام الأخيرة، على لسان رئيس الوزاراء جان بيير رافاران الذي كرس جهده للدفاع عن حقائق المجتمع الفرنسي والتقاليد العلمانية لفرنسا.

وبقراءة هذه التصريحات قراءة سياسية، فإنها تعني في أول دلالاتها، انتمائها إلى السياسة الوقائية إذ عنها تتفرع، وقد اختارت فرنسا التمركز عند قيمة العلمانية، كتمركز مقابل لقيمة الديمقراطية التي جعلتها أمريكا جوهر سياستها الظاهرة.

وبسبب تفطن فرنسا إلى بعض الاختلافات، بما فيها الاستعدادات الفرنسية ذاتها، فإن عديد الاعتبارات أثرت على طريقة فرنسا في الوقاية، لا سيما أن معطيات قوية تفرض على فرنسا استبعاد الخيارات المتطرفة. ومن هذه المعطيات نذكر أن عدد المسلمين في فرنسا يبلغ سبعة ملايين، ومن المرشح أن تشهد هذه الملايين السبعة قفزة كمية بثلاثة أضعاف، في غضون عقد ونصف عقد من دون أن ننسى أن الإسلام هو ثاني أهم ديانة في فرنسا.

لذلك فإن الإجراءات الفرنسية الأخيرة تهدف إلى التعامل ومنذ هذه اللحظة، مع الثقل الثقافي والسياسي الممكنين لعشرين مليون مسلم، وليس لسبعة ملايين فقط وهو ما تشترطه الفلسفة الوقائية التي تتخذ في الغرب شكل العلاج السابق لأوانه. وبالعودة إلى تصريحات جان بيير رافاران وخاصة التدقيق في بعض مفرداتها المفاتيح، فإنه قد أعلن أن الحكومة الفرنسية تسعى لمنح المعلمين سندا قانونيا، لطرد الطلبة الذين يخالفون التقاليد العلمانية للدولة، ومن هؤلاء المخالفين ذكر المسلمات، اللواتي يجب أن يمنعن من ارتداء الحجاب.

ويرى رافاران أن من المهم أن يحيط الأئمة الذين يمارسون عملهم في الأراضي الفرنسية بحقائق المجتمع الفرنسي العلماني، من دون أن ننسى طبعا أن بوبكر الذي تم انتخابه رئيسا للمجلس الإسلامي الفرنسي، هو من أنصار ما يسميه عادل ظاهر، في كتابه «الأسس الفلسفية للعلمانية»، بالعلمانية الصلبة التي ترى ضرورة ابتعاد الدين عن السياسة.

إن الأسئلة التي تثريها تصريحات جان بيير رافاران، هي: لماذا إقامة المجلس الإسلامي الفرنسي الآن بالذات؟ وما هي حقيقة الدفاع عن القيم العلمانية للدولة الفرنسية في خصوص علاقاتها بالثقافة الإسلامية؟

يظهر أن فرنسا، عجلت خطاها لإحداث المجلس الإسلامي الفرنسي، بهدف تأطير الملف الإسلامي في فرنسا، وضبطه كي تتمكن من الاستجابة لمقتضيات الوقاية من إمكانيات حصول تهديد داخلي في مستقبل السنوات القليلة، يؤدي بدوره إلى إرهاب داخل المجتمع الفرنسي، لا سيما أن القناعة الباطنية في العالم الغربي، تقول بأن الكائن المسلم مشروع إرهابي ممكن، ولعل فرنسا في هذا الصدد لا تغفل عن حالات الاحتقان التي يعيشها الجيل الثالث من المهاجرين العرب المسلمين، بالإضافة إلى أن حربي الخليج الثانية والثالثة جعلتا المنتبهين في فرنسا، يتوقفون عند ردود فعل الشباب المسلم الحامل للجنسية الفرنسية وكيف أنه في لحظات معينة تتغلب عليه هويته الأصل، ولذا فإن دواعي اعتماد سياسة الوقاية تبدو أكثر من ضرورية، وقد خيرت هذه السياسة معالجة النتائج الممكنة، بدل استنطاق الأسباب والمسببات.

إن قيام مجلس إسلامي فرنسي هو خطوة مؤسساتية للسيطرة على المجموعة المسلمة في فرنسا وذلك بطرائق تعتمد الضغط والمحو من أجل تنميط اجتماعي وثقافي وفكري للعنصر المسلم، بحيث يصبح المطلوب طمس الهوية الإسلامية لصالح الهوية العلمانية، مع اقتراف مبالغات واعتداءات تطيح باحترام فرنسا للتنوع الثقافي والديني والاجتماعي. ولعل تكليف نيكولا سازكوزي مشروع تدريب الأئمة بما يناسب التقاليد العلمانية الفرنسية، يؤكد الهوس الأمني الفرنسي، إذ أن سازكوزي وزير للداخلية، وهو ما يعني أن التعاطي مع الملف الإسلامي في فرنسا، هو تعاط شبيه بالتعاطي الأمريكي. والمطلوب من سازكوزي أن يلعب دور رامسفيلد، أي تأمين دفاع داخلي مبكر من انحراف قادم من الداخل بالنسبة إلى حالة فرنسا.

ومن الواضح أن الجهد الوقائي الفرنسي يقتصر على المعالجة السياسية الضيقة الأفق، والقصيرة المدى، من دون مراعاة خصوصيات المسألة الإسلامية وطابعها الثقافي والحضاري، لذلك فإن المحو الثقافي الإسلامي يُمكّن فرنسا من طموحاتها، التي رغم هدوئها المعلن والظاهر، هي طموحات تنهل من معين إمبريالي، وكل الاختلاف يكمن تحديدا في استعداد فرنسا للتعامل مع الملف الإسلامي، وهو استعداد مفروض عليها بدوره، لأنها مجبرة على التعامل مع المجتمع الفرنسي برمته بما فيه المجموعات المسلمة التي يبلغ عددها سبعة ملايين مسلم.

وما نلاحظه في السيطرة الوقائية الفرنسية هو تسلحها من جهة بالعلمانية لفرض ما يخدم أمنها القومي بالطريقة التي تراها، وذلك حتى لو تتطلب منها ذلك تحريفا لا لبس فيه، أو الوقوع في تناقضات تنسف التاريخ الفرنسي مع الحرية ومع التنوع ومع الاختلاف، إذ أن التفكير في إحداث سند قانوني يمنح المعلمين الفرنسيين حق طرد الطالبات المحجبات، يثبت أن العلمانية الفرنسية أداة قمع للحريات، وأن هناك محاولة للمبالغة في البديهيات العلمانية، فمن المعروف أن العلمانية تقضي بفصل الدين عن الدولة، أي رفض الدولة الدينية، وهذا يعني أنها لا ترفض الكائن المؤمن، لا سيما أن ما قامت به العلمانية ينحصر تحديدا في إخراج الدين من فضاء العموم الاجتماعي إلى فضاء الخصوص الفردي، ولذا فإن قضية ارتداء الحجاب تتدرج في فضاء الخصوص الفردي وفي نطاق الحريات المنصوص عليها في مبادئ حقوق الإنسان.

فالعلمانية المدافع عنها في فرنسا اليوم هي العلمانية الفاشية، تلك التي تتنكر لقيمها وتخوض تناقضا يطيح بها، إذ أنها تطل على الديكتاتورية، وبالتالي تهدد الديموقراطية الفرنسية، بالاضافة إلى نزوعها التلقائي إلى الدفاع عن المسيحية من خلال محاربة الدين الإسلامي. فالثابت تاريخيا أن القيم العلمانية خاضت معركة مع الكنيسة، وتصالحت مع المسيحيين، بل إن ماكس فيبر يرى أن البروتستانتية هي التي أظهرت العقلانية وساهمت في خلق الرأسمالية. وبما أن السياق الإسلامي خالٍ من معادل موضوعي للكنيسة للقضاء عليه، فإن الحل يتمثل في صراع الإسلام كثقافة ليسهل تنميط المسلمين ودمجهم القسري في هويات ليست هويتهم، خاصة إذا قرأنا المسألة في إطار الدفاع عن المسيحية، وإقصاء النوع الثقافي الديني الإسلامي من دائرة الخصوص الفردي لحياة المسلم الفرنسي.

ومن المؤكد أن هذه الإجراءات وهذه الخطط الأولية المطروحة لتحقيق السيطرة الوقائية على مسلمي فرنسا، لن تلقى الترحاب الكبير في فرنسا، خاصة في صفوف القوى الثقافية الفرنسية التي تمتلك حساسية مضادّة، لكل ما يمس بتنوعها الثقافي وبقيمة الحرية لديها. ولا ندري ما إذا كان سيتم استثناء الاستثناء الثقافي، كضرورة متوهمة من ضرورات الوقاية من أخطار تحدق بالمجتمع الفرنسي من الداخل. إلا أن المؤكد هو أن التوغل عمليا في إجراءات ضد الحرية، سيعني أن فرنسا، تلطم وجهها بيدها!