أعطوا السوق المشتركة فرصة

TT

قد نمضي الليل كله نتجادل حول الشأن السياسي العراقي ولا نستطيع ان نتفق على نقطة واحدة، فهو امر مفهوم جدا لوجود هوة كبيرة في التفكير والتوقعات. فنحن لا نتفق حتى على مقاييس النجاح والفشل ومعايير الصح والخطأ. لكن لا اعتقد اننا سنختلف كثيرا حول قياس الاخفاقات العربية في المجالات غير السياسية، مثل الاقتصادية.

ليس صعبا ان نشهد الفشل الاقتصادي المريع في العراق، دون ان نتورط في نقاش اسبابه. ان راتبا قدره عشرة دولارات في الشهر للموظف في العراق لا يمكن ان يختلف على انه فضيحة يجب ان تصحح. فالموظف العراقي راتبه اقل من نظيره الأردني الذي يصل الى نحو ثلاثمائة دولار شهريا تقريبا، رغم انه يقال ان اقتصاد الاردن يعيش على الاقتصاد العراقي. هذا النجاح الأردني والاخفاق العراقي لا يمكن ان يلام الموظف عليه او السوق، بل ان النظام السياسي مسؤول عنه بالدرجة الأولى والأخيرة.

ان رفع دخل الموظف العراقي شهريا من عشرة دولارات الى ثلاثمائة هو التحدي الذي يواجه العراقيين، ومعهم الحاكم الأميركي، لأنه مسؤول مسؤولية مباشرة عما يحدث وسيحدث مستقبلا في العراق.

وهذا المدخل يقودني للتعليق على المشروع الذي طرحه الرئيس الاميركي اول من أمس، داعيا العرب الى تأسيس منطقة حرة بيننا وبين بلاده مضافا اليها دول تحيط بنا. استطيع ان ادعي معرفتي بردود الفعل العربية الأولى. ستكون مشككة ورافضة ومحاربة للطرح كله. ستعطيه اوصافا امبريالية وصهيونية وستلصق به كل ذميمة في القاموس العربي. لذلك كان الأحرى بالاميركيين ان يعرفوا الآن طبيعة التفكير العربي السياسي المصاب بداء الشك ويتعاملوا معه كتفكير مريض يحتاج الى رعاية حساسة. ان مطالب العرب عادة صغيرة لكن شكوكهم كبيرة. وربما كان الاجدر بالاميركيين ان يوعزوا الى اقطاب عربية في المنطقة تطالب اميركا بمعاملة اقتصادية مماثلة لاسرائيل، التي تحظى باستثناءات اقتصادية كثيرة. ثم يأتي الاميركيون ويلتقوا عمرو موسى، الامين العام للجامعة العربية وحامل لواء المعارضة، ليعلنوا بعدها عن قبولهم بالمطالب العربية. هذه المسرحية هي الطريق الأفضل لمعالجة النفسية العربية التي ترفض كل ما يقدم لها على طبق، حتى لو كان من ذهب، وتقبل بالشيء بعد منازعة دامية.

نعرف ان كثيرا من دول العالم قد تختلف مع الولايات المتحدة، لكنها تريد دائما منها شيئا واحدا هو العلاقة الاقتصادية المميزة، لأنها اغنى سوق في العالم، واقدر اقتصاد على انعاش اي اقتصاد صغير مثل السوق العربية.

عربيا، من وجهة نظري، ان النقطة الاهم هي ان الانخراط في سوق حرة مع دولة خارجية سيساعد العرب على خلق سوق مشتركة لانفسهم بعد ان عجزوا عن تحقيقه طول تاريخهم الحديث. وسيكون ذلك مشابها لما فعلته اميركا حتى الآن في العراق عندما فرضت الانضباط بين المعارضة الكارهة لبعضها بعضاً.

السوق العربية، هي الأخرى، تحتاج الى ضابط اميركي يجمعها، ويوحدها، ويفرض عليها مواصفات مشتركة، ويشحنها اقتصاديا من خلال سوقه التي تلتهم كل شيء. مؤسف ان نبلغ حالة ننشد معها شريكا اجنبيا، لكن في الاقتصاد لا مفر من ذلك لأن السوق العربية المشتركة فشلت قبل ان تولد، وحتى الاسواق العربية الاقليمية ولدت معاقة، مثل السوق الخليجية التي مر عليها عشرون عاما مليئة بالنزاعات على رسوم جمركية من الاحذية الى المنتجات البترولية. ان انخراطنا في سوق حرة مع دول كبيرة سيتيح للسوق العربية ان تظهر وهذا مهم، وثانيا ان تنجح وتنتعش، وهذا امل يصعب علينا ان نحققه بدون سوق كبيرة تعطينا هذه الفرصة. لهذا اعطوا سوقنا فرصة بعد ان ضيعتم فرصنا السياسية.