أحمر، أخضر ولا أصفر

TT

مرت ثلاثة عقود على اختراع شيء يدعى الهاتف الجوال او النقال او المحمول او الخلوي او الخليوي او «باللغا اللبنانيي»، السيلولير. ولم تبلغني هذه الآلة التي بدأ تداولها بحجم مطحنة البن، الاّ بعدما اصبحت في حجم امارة موناكو، شتاء. وكان الراديو «الترانزستور» قد بدأ في حجم بطيخة اميركية وتطور حتى اصبح في حجم علبة «لاكي سترايك». والتطور في العلم مثل التطور في الكتابة: اختصار.

نظرت الى الهاتف الخليوي في البداية على انه عدو اجتماعي قليل الذوق. وكان ضغطي يرتفع كلما دخلت الى مطعم في بيروت ووجدت ان عدد الهواتف الموضوعة على الطاولات يفوق عدد صحون الحمص والكبة النيئة والصعتر البري. وكتبت هنا مرة، في نوع من الاستغاثة، عن رجل ذي مواكب يدخل جناح المراحيض في احد مطاعم برمانا، وخلفه مرافق يحمل له جواله او حماله او ناقل احواله. واصبح «السيلولير» في لبنان جزءاً من الصورة الاجتماعية مثل المرسيدس «الشبح» والياقة المكوية بالنشاء والمربَّية السويسرية. وقررت ان احصَّن نفسي ضد هذا الوباء وان امنعها من التحدث في الاماكن العامة بصوت مرتفع، وألا اروي على مسامع الاخرين حكايات السهرة البارحة ونوعية الاكلات التي قدمت للضيوف.

ذات يوم طلبت مسؤولا رفيعاً اريد محادثته، فرد قائلا انه في اجتماع عاجل: «اعطني رقم جوالك لاتصل بك». وخرجت من البيت فورا لاشتري جوالا. وبعد قليل اشترت زوجتي جوالاً آخر من اجل الاولاد. ثم اشترى ابني جواله كي يستطيع الاتصال بأمه كلما احتاج نقوداً اضافية لوقود سيارته. وعندما كبرت ابنتي اصبح الجوال ضرورة الامومة والابوة معا والآن هو رابط العائلة خصوصاً عندما أسافر. فهو الوسيلة المثالية لكي يبلغني بها ابني وابنتي من طلبات فاتهما ذكرها بالامس. ويقدم ابني لطلباته عادة بذكر علاماته المتفوقة في الجامعة. وغالباً ما يكون الطلب جيلاً جديدا من «نوكيا»، يلتقط الصور ويغني ويصل الناس بالانترنت ويبعث بالرسائل وطلبات الانتساب الى جامعات بريطانيا. اما انا فلا تزال معرفتي بهذا العالم محصورة في الزر الاحمر والزر الاخضر. وقد وقعت في حرج غير مرة، اذ ترك لي بعض اصدقائي رسائل هاتفية وفي ظنهم الحسن انني اعرف كيف اعثر عليها. واضطرني ذلك الى ان اصدر تعميماً فحواه، الداعي لكم بطول العمر، احمر اخضر، وما عدا ذلك فالله غالب وقلوبكم غفورة.

لكن برغم محدوديتي وحصار الاخضر والاحمر، فقد اصبح الخليوي هو مكتبي المتنقل. وباستخدامي رقماً واحداً استطيع ان ابقى على اتصال مع عائلتي واصدقائي وانا في اي مكان. وعلى هذا الرقم يطاردني الزميل عبد الوهاب ولي الى الدار البيضاء ليقول لي «هسه فد سطرين في الصفحة ثلاثة كلش مو واضحين»، فاعيد ارسال الفاكس الى ان يتضح القول ويستوي المقال ويهدأ البال وكل غمة الى زوال.

تعاني شركات الهاتف العادية (السلكية) من ازمات مالية في كل مكان. وقد تهاوت اسهم كبرى الشركات الاميركية وشركة الهاتف البريطانية بسبب اندفاع الناس نحو الهواتف الجوالة. هذا «الترانزستور» الجديد غيّر حياة البشر كما غيرها من قبل الراديو المحمول الذي نقل اغاني ام كلثوم الى الرعاة وقطافي القطن في الترع.

ولم يعد عليك ان تنتظر العودة الى البيت لكي تصغي الى اغنيتك، كما لم يعد يتعين عليك العودة الى البيت لكي تجري مكالمة هاتفية. وروى لي الفنان دريد لحام (جادا لا مازحا) انه دعي مرة الى سهرة في مطعم لبناني كثر ضجيجها. ولاحظ ان معظم الجالسين معه يتحدثون «بالسيلولير». وقال في نفسه، هل يعقل انهم جميعاً يتصلون بالبورصة في هذا الوقت؟ ومال على جاره وسأله: «ايه شو هالحقي خيو؟ شو اشبكن قايمين كلكن تحقوا ع التلافون؟». وفهم من جاره انهم يتحدثون مع بعضهم البعض. الوسيلة الوحيدة للاقتصار على الضجيج.