فضاء العنصرية... وحدود المكارثية

TT

يا عرب اسمعوا وعوا... فخلال سنة ـ وعلى الابعد سنتين ـ سيصبح انتقاد حزب «الليكود» جريمة عنصرية يحاسب عليها القانون!

لا والله، لا اكذب ولا أبالغ، لكنني ارانا سائرين نحو هذه النقطة وفق «خريطة طريق» مدروسة ومفروضة علينا لكي نصبح تلامذة نجباء تقبلنا مدرسة النظام العالمي الجديد، في فرعه الاقليمي بمنطقة الشرق الاوسط.

هذا ما اكتشفته قبل أيام عندما قرأت مقالة للصحافي البريطاني جوناثان فريدلاند في صحيفة «الغارديان» المحترمة يهاجم فيها النائب العمالي تام دييل، بعدما نشرت صحيفة «الصنداي تلغراف» ـ شقيقة صحيفة «الجيروزاليم بوست» الاسرائيلية ملكية واتجاهاً ـ تصريحاً لدييل في مجلة «فانيتي فير» الاميركية انتقد فيه ما وصفه بتأثير مجموعة من المقربين اليهود على رئيس الحكومة البريطانية، وما اسماه بـ«عصبة تآمرية» يهودية ترسم السياسة الاميركية الحالية في منطقة الشرق الاوسط.

للعلم، دييل (71 سنة)، خريج كلية ايتون وجامعة كمبريدج العريقتين، رجل مثقف ورقيق المشاعر ورفيع الذوق، معروف بمقته للتدخل العسكري وسياسات البلطجة «الصقورية» الدارجة في هذه الايام المظلمة. بكلام آخر يصعب إدراج الرجل تحت خانة السياسي الراديكالي الفظ الذي نحت مسيرة صعوده السياسي في محاجر نقابات العمال، وتربّى على طروحات العداء الطبقي والتهجم على «الامبريالية» الاميركية... كما كان يفعل بعض إخوتنا من ماركسيي العراق قبل ان «يكتشفوا» أخيراً الولع المدهش لليمين الاميركي بالديمقراطية وحقوق الانسان وسيادة بلدهم على مواردها الطبيعية!! بل على العكس تماماً، سبق لدييل ان عمل بين 1964 و1965، ثم بين 1967 و1970 سكرتيراً برلمانياً لانتوني كروسلاند، الوزير السابق الراحل واحد كبار قادة حزب العمال المتعاطفين مع إسرائيل.

مع كل هذا، لم تشفع هذه الحقائق للمسكين دييل، فهب المستر فريدلاند لاتهام كلامه بأنه ينطوي على «افتراء عنصري»، معتبراً ان شخصيتين من الشخصيات البريطانية الثلاث (اللورد ليفي ووزير الخارجية جاك سترو والوزير السابق بيتر مندلسون) التي سماها دييل في تصريحه لا يقبل بـ«يهوديتها» الا ادولف هتلر!!!، وذهب ابعد من ذلك عندما قارن كلام دييل بإعلان السناتور ترنت لوت، الزعيم السابق للاغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ الاميركي حنينه لأيام التمييز العنصري الخوالي في ولايات الجنوب الاميركي، واضطراره تحت ضغط الاستنكار الشعبي والاعلامي الى الاستقالة. واستغل فريدلاند هذه المقارنة الغريبة العجيبة ليغمز من قناة تسامح المجتمع السياسي البريطاني مع العنصرية الموجهة سهامها ضد اليهود، في حين يأبى المجتمع الاميركي السكوت عن العنصرية ضد السود.

حتى كاتب كفريدلاند، لا يعد ضمن فريق اليمين الفاشي بين الاعلاميين البريطانيين، لم يجد ضيراً في الانزلاق الى مهاوي التعصب الأعمى المستعد للي الحقائق وقلبها رأساً على عقب بغرض ترويج مزاعمه والدفاع عن قناعاته السلبية. والحقيقة فكّرت لبعض الوقت في الكتابة الى «الغارديان» للرد على هذا الموقف السيء الذي يبلغ من التطرف حد تيئيس امثالي من المعادين للعنصرية من جدوى الحوار، اي حوار، مع من يعتبرون انفسهم فوق مستوى النقد، ويرون ان سياساتهم ـ مهمها تطرفت ـ اشرف من ان توضع تحت المجهر، وساساتهم مهما ارتكبوا من مجازر أجلّ وأعزّ من أن يُساءلوا ويحاسبوا على جزء بسيط مما يتهمون الآخرين به.

ولكن كالعادة توفرت الاقلام التي تصدّت لهذا الابتزاز المكشوف بسرعة، وسآتي على ذكر بعضها لاحقاً. الا ان ما يهمني قوله الآن، هو اننا في عصر الانكسار المر الذي نعيشه، والذل المقيم الذي بالكاد نعي ابعاده واعماقه، سنواجه في الآتي من الأيام تحديات مصيرية ستمس هويتنا ومعتقداتنا ونسيج مجتمعاتنا. وأحسب ان كل عربي مهاجر وجد نفسه خلال العقود الماضية مرمياً بسهام «العداء للسامية» ذهل ليس لخطورة التهمة بل لشموله بها. ومع ان «اعتذاريي» العرب من «الواقعيين» وجدوا كالعادة ذرائع لإدراج العرب الساميين تحت عنوان «العداء للسامية»، فهذه التهمة تظل بالنسبة لأي عربي افتراءً مرفوضاً. ثم ان هذه الظاهرة ولدت أصلاً في اوروبا ووليدتها اميركا، واستهدفت العرب بقدر ما استهدفت اليهود. وبالتالي فنحن هنا ضحايا لا جناة، ولذا من البديهي ان نرفض هذا العداء بالمطلق.

ثم سمعنا بـ«العداء لليهود»، وقد سبق رشق العرب بهذه التهمة، ولا سيما بعد تأسيس إسرائيل عام 1948. وهنا لا بد من الاعتراف بأن ثمة عداءً عنصرياً عند بعض العرب والمسلمين لليهود كيهود، الا انه لا يختلف كثيراً عن عداء بعض اليهود للاسلام كإسلام، وبعض اليهود للمسيحية كمسيحية، وبعض المسيحيين للإسلام كإسلام ولليهود كيهود، وبعض البوذيين للهندوس كهندوس ...إلخ. والأكيد انه يجب رفض هذا العداء اللاإنساني ـ الذي هو عداء عنصري مريض حقاً ـ من منطلقات الاخلاق اولاً والمبادئ السياسية السامية ثانياً.

ثم وصلنا إلى تهمة ثالثة هي «العداء للصهيونية» وهنا ارتبكت الأمور. فالصهيونية، رغم مزاعم جذورها الدينية حركة سياسية قومية استيطانية. بدليل ان معظم يهود العالم احجموا عن تأييدها والالتزام بها في سنواتها الأولى ولم يؤمنوا بأنها جزء لا يتجزأ من المصير اليهودي. وهي لم تكسب الارضية الصلبة التي تتمتع بها اليوم الا بعد مذابح النازية. وعندما كان في السياسية الدولية شيء من التوازن، ادينت الصهيونية بالفعل واعتبرتها الأمم المتحدة «حركة عنصرية» لأنها تميز حيث طبّقت في أرض فلسطين بين اليهودي وغير اليهودي. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد الولايات المتحدة بالقرار الدولي، قلب الوضع 180 درجة. ولم تكتف القيادات الصهيونية الاميركية والاوروبية بعدها بتبرئة الصهيونية من تهمة العنصرية بتصويت مضاد داخل الامم المتحدة ذاتها، بل نجد الآن ان مَن يربط الصهيونية بالعنصرية... بات متهماً بـ«العنصرية»!

وها نحن الآن امام آخر الغيث، الذي يريد المستر فريدلاند ومن يسير في فلكه، فرضه علينا. وهو انه اي عداء حتى لتوجهات اليمين الصهيوني المتمثل اليوم بحزب «الليكود» وصهاينة اليمين الاميركي يجب ان يندرج تحت خانة «العنصرية». فإذا ما اتهم عربي او مسلم او حتى بريطاني أشقر، مثل تام دييل، من لا يتردد الاعلام الاميركي نفسه عن وصفهم بـ«الليكوديين» Likudniks وجب ان تقوم القيامة وترتعد الدنيا وتغور الجبال وتثور البحور... يا للهول، كيف يتهم ريتشارد بيرل وبول وولفويتز ودوغلاس فيث و..و .. بأنهم «عصبة».. بل و«عصبة يهودية»؟!!

احد قراء «الغارديان» واسمه جون هودج رد بهدوء ومنطق على ثائرة المستر فرديلاند، ومما قاله:

«انه لمن المؤسف ان يشعر جوناثان فريدلاند بالحاجة للمبالغة بالدفاع حول موضوع النفوذ اليهودي في كواليس القرار السياسي الاميركي، لأن هذه النزعة تعطل اي نقاش منطقي وبعيد عن العنصرية في هذا الموضوع.... فريتشارد بيرل، الذي كان كما يظهر احد رعاة بول وولفويتز واحد مهندسي غزو العراق، عضو في «المعهد اليهودي لشؤون الامنية»، والمثير ان ديك تشيني ايضاً كان عضواً فيه قبل توليه منصبه (الحالي) عام 2001. و«المعهد» يدفع للضباط الاميركيين المتقاعدين لزيارة اسرائيل حيث «يصار الى إطلاعهم أمنياً» بواسطة المسؤولين والساسة الاسرائيليين. واللفتنانت جنرال جاي غارنر ذهب في احدى هذه الزيارات في اكتوبر (تشرين الاول) عام 2000، ووقع على بيان ينحى بالائمة على الفلسطينيين باندلاع العنف بين الفلسطينيين والاسرائيليين. إن اسم هذه المنظمة ليس «المعهد الصهيوني» او اي اسم ايديولوجي آخر ـ بل انها تحمل اسم «المعهد اليهودي» وتسعى على ما يبدو للتأثير على القرار السياسي الاميركي. إذاً هل نستطيع الآن بعد تأخر الوقت معرفة ما هي حقاً القضايا الحيوية جداً؟».

رد آخر على فريدلاند جاء أقصر لكنه ايضاً اصاب كبد الحقيقة. إذ كتب القارئ مارك ايلف «مخطئ جوناثان فريدلاند في قوله ان تام دييل وقوانين هتلر في نورنبورغ تحدد اليهودي بمن كان احد جدوده يهودياً. فقانون «حق العودة» الاسرائيلي يحدد اليهود كهذا تماماً».

نهاية الكلام... انها «مكارثية» جديدة يا سادة يا كرام تضيء «خريطة الطريق» نحو الاستسلام الكامل.