قبل أن تقضي عليها «النيران الصديقة»

TT

ما أكاد انتهي من وقفة تأمل هادئة لمسارالتعاطي العربي مع القضية الفلسطينية حتى يزاولني شعور باني انتمي، قوميا، الى أمة الفرص المفوتة واجتماعيا الى اسرة الشعارات المعلبة.

وأغرب ما في فرص أمتي المفوتة ان القضاء عليها كان بفعل «النيران الصديقة» (نيران العرب) أولا.

ـ قرار تقسيم فلسطين كان أول الفرص المفوتة ـ لوقبلناه لكان أعطى «الدولة المزعومة»، اسرائيل، نحو 20 في المائة فقط من أرض فلسطين وترك الباقي لدولة قابلة فعلا للحياة.

ـ حرب العام 1948 فرصة أخرى مهدورة بين «هدنة» و«هدنة»... ولا حاجة للعودة الى دوافع إهدارها.

ـ حرب العام 1956ـ المعروفة بـ«العدوان الثلاثي» على مصرـ مناسبة أخرى كادت أن تُضيّع وتكرس الاحتلال الاسرائيلي لسيناء... لو لم تلتقِ المصلحة المصرية بانسحاب اسرائيل مع المصلحة الاميركية بتقليص النفوذ البريطاني ـ الفرنسي في الشرق الاوسط (آنذاك).

ـ حرب يونيو(حزيران) 1967 كانت نكبة تاريخية سميت، تهذيبا، «نكسة»... على أمل ان لا تنقلب الى فرصة كبرى مفوتة.

ـ حرب 1973كادت أن تخرج على قدرالفرص المفوتة في ظل التنسيق العسكري المصري ـ السوري... إلا أنها تحولت، على الجبهة الشمالية، الى فرصة أخرى مهدورة بفعل الخلاف السياسي المصري ـ السوري.

ـ أما مؤتمر مدريد عام 1991 فقد كان قمة الفرص المفوتة، فبعده بقليل فرطنا بـ«المكافأة الاميركية» المنتظرة ثمنا لدعم عربي نادر لحرب (اميركية القيادة) على العراق، فأدى جري القيادة الفلسطينية منفردة وراء مفاوضات «سرية» في أوسلو الى اختراق وحدة الموقف العربي وتناسي المكافأة الاميركية الجماعية للعرب .

ـ لقاءات «كامب ديفيد»، ومن بعدها لقاءات طابا في العام 2000، فرصتان ثانيتان مهدورتان فوتتا على العرب تسجيل التزام اميركي بدولة فلسطينية الى جانب الدولة الاسرائيلية وتكريس قبول اسرائيل باعادة 98 في المائة من الاراضي المحتلة الى السيادة الفلسطينية (مقابل تعديلات حدودية تعوض مساحةال2 في المائة المحتلة) وإعادةالسيادة الفلسطينية الى الاماكن المقدسة في القدس.

ـ مشروع كلينتون ـ باراك للتسوية في ديسمبر (كانون الاول) 2000، فرصة أخرى ضاعت على بعد 40 مترا تقريبا من شاطيء بحيرة طبريا وأضاعت معها فرصة استغلال تزامن وجود رئيس أميركي ليبرالي (بيل كلينتون) في واشنطن ورئيس حكومة عمالي (ايهود باراك) في اسرائيل لمحاولة انتزاع المزيد من «التنازلات» في سياق التسوية النهائية... فكان ان وصلنا بعد ثلاث سنوات الى أفضل ما يمكن للعرب نيله في عهد الثنائي اليميني جورج بوش وارييل شارون: «خريطة الطريق».

والان تتعرض خريطة الطريق، بدورها، الى زخات من «النيران الصديقة» لن تنجو منها الا بمعجزة : تجاوز العرب ذهنية الفرص المفوتة ونغمة الشعارات المعلبة.

نتهم الولايات المتحدة بالمكابرة ونحن أول المكابرين: لماذا لا نعترف باننا، على مدى نصف القرن المنصرم واكثر، لم نسجل في «نضالنا» لاستعادة فلسطين سوى الانكسار تلو الانكسار العسكري؟

لماذا لا نعترف ـ بالواقعية التي يصفها الالمان بـ«Realpolitik» ـ ان اي امل لنا في انتزاع مكاسب شبه منصفة للفلسطينيين في أى تسوية نهائية لن ينبع عن الثقل العربي في ميزان هذه التسوية بل عن ثقل دولة عظمى اسمها الولايات المتحدة؟

«خريطة الطريق» ليست الحل الامثل للنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي ، خصوصا اذا اصرت اسرائيل على وقف الانتفاضة كشرط اساسي للتفاوض عليها، ولكنها، في اسوأ الحالات، تلزم الاميركيين بدولة فلسطينية «قابلة للحياة» وتلزمهم ايضا بتاريخ محدد لقيامها (عام 2005).

في ضوء المعطيات الدولية الراهنة، وتحديدا الامر الواقع الاقليمي الذي لخصه كولن باول بدبلوماسية «الحمائم» في سياق تذكيرنا بان الشرق الاوسط اصبح الفناء الخلفي للولايات المتحدة، تبدو «خريطة الطريق» وكأنها فرصة التسوية الاخيرة غير المفوتة بعد... فهل نتلقفها قبل ان تقضي عليها «النيران الصديقة».