ما هو أبعد من التغرير..

TT

في عام 1995، وعندما حدث العمل الارهابي الأول في السعودية بعد انتهاء «الجهاد» في أفغانستان، فوجئ المجتمع السعودي بمثل هذا العمل «الدخيل عليه»، والمخالف لعاداته وقيمه، واعتبرت في النهاية حادثة فردية شاذة من مجموعة شباب «غُرر» بهم، لا يمثلون الاسلام وقيمه، ولا المجتمع وعاداته. أُعدم القائمون بالعملية خلال أشهر قليلة من العملية، واعتُبر أن القضية قد انتهت بموتهم وأُغلق ملفها. ولكن ما كان أحد يدري، مع أن المفروض أن يكون ذلك من المتوقع، بأن ما ظهر كان مجرد جزء من رأس جبل جليدي عائم، ولا زالت البقية الكبرى مغمورة بالمياه. وعندما حدثت عملية الخبر عام 1996، لم يتغير الموقف كثيراً، اذ كان القائمون بعملية الخبر ينتمون الى طائفة أخرى لا علاقة لها بأفغانستان وتوجهات طالبان. وجاءت أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام 2001، ليظهر جزء آخر من جبل الجليد العائم: خمسة عشر سعودياً من أصل تسعة عشر نفذوا «غزوة» نيويورك ومانهاتن. كانت تلك الحادثة وما تكشفت عنها من أمور، زلزالاً حقيقياً في العلاقات السعودية الأميركية، تلك العلاقات التي بقيت ثابتة ومستقرة لمدة سبعين عاماً من التحالف التاريخي، لا يشوبه الا شائبة هنا وشائبة هناك، ومن خلال أزمات طارئة لا تلبث أن تنتهي بمجرد أن تنتهي أسبابها المباشرة. جاءت هذه الحادثة لتدق اسفيناً حقيقياً في العلاقات السعودية ـ الأميركية، ولتكون نقطة تحول جذرية في السياسة الخارجية الأميركية، بعد أن تمكن المحافظون الجدد وفلسفتهم من السيطرة على مفاصل القرار السياسي الأميركي، بفضل هذه الحادثة، أو بمساعدة منها على الأقل. ربما كان هذا هو الهدف البعيد لمخططي هذه العملية، أي شق العلاقات السعودية ـ الأميركية، واستعداء الولايات المتحدة على السعودية، وهما حليفاهم أيام الحرب الباردة، والمتخلين عنهم بعد ذلك، وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح، ولكن هذه قصة أخرى.

ما نريد قوله هنا إنه وخلال كل هذه الفترة، كان التعامل مع تلك الأحداث على أنها جرائم معزولة، أو كان الأمل هو أن يكون الوضع كذلك، أو أنها جزء من الارهاب المتعولم، مثلها مثل المرض المتعولم والجريمة المتعولمة والاقتصاد المتعولم والبطالة المتعولمة ونحو ذلك، والسعودية معرضة له مثلها مثل أي بلد في العالم، وذاك أمر صحيح، ولكنه لا يعكس الا وجهاً واحداً من أوجه الحقيقة. وفي غالب الأحوال، كان القائمون بمثل هذه العمليات يوصفون بالمغرر بهم، أو المغسولة أدمغتهم، ونحو ذلك من صفات هي في اعتقادي لا تنفذ الى جذور المشكلة، بقدر ما تحاول أن تقلل من شأنها، علنياً على الأقل، بجعلها مجرد حوادث لا رابط جذري ينتظمها. فهم شباب مغرر بهم، لا شك في ذلك. وهم فتية غُسلت أدمغتهم، لا ريب في ذلك. ولكن، كيف غُرر بهم ولماذا، ونحو ذلك من أسئلة متعلقة بآليات التغرير وليس بذات التغرير، هي الأهم قبل تقرير مسألة التغرير والغسيل. فالقابلية للتغرير (على وزن القابلية للاستعمار) هي التي يجب أن تُناقش هنا في تقديري، وليس ذات التغرير المتفق عليه، وذلك مثل القابلية للمرض أو القابلية للخداع أو القابلية لهذا الفعل دون ذاك الفعل.

نقطة البدء في فهم آلية التغرير هي أنه من الملاحظ أن معظم، ان لم يكن كل القائمين بمثل هذه العمليات هم من فئة الشباب، وبالتحديد تلك الفئة العمرية التي لا تتجاوز غالب الأحوال الثلاثين من العمر. نحن لا نتحدث هنا عن تلك القيادات التي تلعب في الخفاء، والمدركة تماماً الأبعاد السياسية لما تقوم به، والتي قد لا تكون مؤمنة حتى بما تطرح من شعارات وايديولوجيات، ولكننا نتحدث عن المنفذين من الشباب الذين يفعلون ما يفعلون عن ايمان وقناعة تامتين بشرعية المعمول وصحته، حتى وان ثبت أن تلك كانت قناعة فاسدة. الشباب، وبالنسبة لأي فكرة أو تنظيم، من اليمين الى اليسار ومن الدين الى الدنيا، هم الوقود الحقيقي لمثل تلك التنظيمات والحركات، ولذلك يجري التركيز عليهم «والتغرير» بهم وفق آليات مدروسة بعناية، ووسائل ممحصة بدقة، وليس مجرد دعوة وداعية، شعار وايديولوجيا. عندما نأخذ هذه الحقيقة في الاعتبار، أي حقيقة أن الشباب هم الوقود الحقيقي لمثل تلك الحركات، ونعلم أن ما يقارب ستين في المئة (60%) من السعوديين هم ممن تقل أعمارهم عن الثلاثين عاماً، وأن ما يقارب الخمسين في المئة (50%) من السعوديين هم في سن الثامنة عشرة وما دون، وأن سبعة وتسعين في المئة (97%) من السعوديين هم في سن الرابعة والستين وأقل، يمكن أن نكون صورة عن المدى أو الساحة المتاحة للتغرير والمغررين، وللمتصيدين في الماء العكر من أصحاب الأهداف والغايات التي ربما لا يدركها، وفي الغالب لا يدركها، أولئك الشباب المغرر بهم. بمعنى آخر، واذا افترضنا أن عدد السعوديين يبلغ عشرين مليوناً، فان اثني عشر مليوناً من هؤلاء هم أقل من الثلاثين في أعمارهم، أو عشرة ملايين ممن هم أقل من الثامنة عشرة. وبأخذ المعدل المتزايد للمواليد في المملكة، وهو من أكثر المعدلات في العالم (37 لكل ألف تقريباً، مقارنة بـ 15 لكل ألف في الولايات المتحدة تقريباً)، فان «شبابية» المجتمع السعودي في حالة متزايدة وليست متناقصة، وهذا شيء جيد عندما تكون الأوضاع على ما يرام الى حد كبير، أي عندما يكون هنالك اقتصاد متنام، وسوق عمل قادرة على استيعاب هذه الأعداد المتزايدة من الداخلين الجدد، وقنوات سياسية (مؤسسات) قادرة على استيعاب وتنظيم مشاركة هؤلاء في الشأن العام، ولكن هل إن الوضع السعودي قادر على ذلك؟

من ناحية اقتصادية، فان حوالي ستين الى سبعين في المئة (60% ـ 70%) من اجمالي العمالة في السعودية هم من الأجانب، وترتفع هذه النسبة الى حوالي تسعين في المئة (90%) في القطاع الخاص، رغم أن نسبة الأجانب من السكان لا تتجاوز خمسة وعشرين في المئة (25%). والسعودة لم تكن ناجحة تماماً، ولا يبدو أنها ستكون ناجحة بشكل كبير، طالما أن نظام التعليم السعودي لا يفرز من يسد حاجة حقيقية في سوق العمل ومتطلبات الاقتصاد في عصر العولمة. فخلال الفترة من 1995 ـ 1999 مثلاً، بلغ عدد خريجي الجامعات السعودية حوالي 115 ألفاً، ولم تشكل العلوم الهندسية والطبية سوى 18 ألفاً منهم، وما نسبته حوالي 16% من خريجي الجامعات، كما يذكر الدكتور ماجد المنيف في بحث له حول الضغوط على دولة الرفاه الاجتماعي في السعودية. وفي الوقت الحاضر، فإن اثنتين من ثلاث شهادات دكتوراه تصدر في السعودية، تدور في حقل الدراسات الاسلامية، كما يقرر باحث غربي، وهي دراسات لا علاقة لها بسوق العمل حتى في المرحلة دون العليا. بالاضافة الى ذلك فان انخفاض معدل الدخل الفردي من 28600 (ثمانية وعشرون ألف وست مئة) دولار عام 1981، الى 6800 (ستة آلاف وثمان مئة) دولار عام 2001، وانخفاض مستوى الانفاق العام، والخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة، في بلد عوّد مواطنيه على الاعتماد على الدولة منذ بداية الطفرة عام 1975، أي معظم السكان اليوم، وارتفاع معدل البطالة الى أكثر من 27%، وتآكل الطبقة الوسطى التي هي أساس كل استقرار اجتماعي ومن ثم سياسي، كل ذلك قد يكون من العوامل المساعدة على فهم ظاهرة التطرف والارهاب المتنامية في بلد لم يكن يعرفها طوال سنوات الرخاء. ولكن كل هذه الحقائق تقع في جانب، والنظام التعليمي السعودي يقع في جانب آخر.

فالتعليم الرسمي السعودي ومناهجه يعاني من الكثير من الثغرات المنهجية التي من الممكن التحكم فيها، وهو عموماً ليس بذاك السوء اذا نُظر اليه حصراً. أزمة التعليم السعودي تكمن في مشكلتين رئيسيتين لا بد من مواجهتهما، والا فان النتيجة لن تكون في صالح المجتمع ومستقبله. أولى هذه المشكلات هي نوعية القائمين على العملية التعليمية في تفاصيلها، من مدرسين ومديرين، أي طواقم التدريس في المدارس. فكما ذكر الدكتور حمزة المزيني في مقالة له في جريدة «الوطن» السعودية، فان المدرسين في مجملهم قد أصبحوا من الدعاة، والى تيار ديني بعينه، بدل أن يتفرغوا للعملية التعليمية، وهذا ما يؤدي الى تخريج جيل من الطلبة لا يفقهون مادة الدراسة من ناحية، وهم مسيسون دينياً حتى النخاع من ناحية أخرى. وثاني هذه المشكلات هي الأنشطة اللاصفية التي تجري خارج اطار التعليم الرسمي أحياناً، وفي ظلاله أحياناً أخرى، مثل المعسكرات الدعوية ومدارس تحفيظ القرآن ونحوها، والتي تتحول في أحيان كثيرة الى بؤر لنشر الفكر المتطرف ورفض الآخر والدعوة الضمنية للعنف، وخاصة في صفوف مراهقين وشباب في مقتبل العمر يتقبلون مثل هذه الأمور على أنها جزء من الدين، وهي ليست كذلك بالضرورة، أو أنها مجرد قراءة ضمن قراءات عديدة على أقل تقدير.

وعندما يصل مثل هذا الفتى المعبأ بايديولوجيا دينية لا تعرف الوسط منذ الصغر، الى مرحلة النضج والبحث عن حياة مستقلة، فتواجهه الظروف الاقتصادية المتردية من ناحية، وتزايد الشقة بين قلة ثرية وأكثرية فقيرة من ناحية أخرى، فان الاحباط والتمرد، على اختلاف أشكاله، يكون هو النتيجة. وفي مثل هذه الحالة، فانه من السهل أن «يُغرر» به، ومن السهل أن «يُغسل»، وهنا تكون الثمرة بالنسبة للمخططين وراء الكواليس منذ البداية قد أينعت وحان قطافها، ويُصبح التجنيد تحصيل حاصل. وعند هذه المرحلة لن يكون لمجرد الاقناع الفكري بالخطأ، كأن يُقال إن ما يجري هو ضد مبادئ الاسلام مثلاً، أي نتيجة مُرضية، طالما أن آليات العقل قد شُكلت منذ الصغر. ولا يعني ذلك أن الحل الأمني المجرد هو الملاذ، فمقابلة العنف بالعنف قد تكون ناجعة مرحلياً، ولكنها غير ناجعة كحل طويل الأمد. نعم، الظروف الاقتصادية ليست بذاتها دافعاً للتطرف ولا العنف، فقد عاش جيلي ظروفاً ليست سهلة، وعاشت أجيال من قبلي في ظروف قاسية، ولكن ذلك لم يؤد الى ظواهر سياسية مرتبطة بها بالضرورة. تتسيس الأمور عندما تكون هذه الظروف الاقتصادية نتيجة أسباب غير اقتصادية من ناحية، كسوء توزيع الثروة الوطنية مثلاً، مضافاً الى ذلك ايديولوجيا تحريضية معينة، وحالة احباط عام، مع عدم القدرة على فعل أي شيء من ناحية أخرى. ومن هنا يبدأ علاج الظاهرة في اعتقادي: ترشيد الاقتصاد، وعقلنة الثقافة والتعليم، والمشاركة العامة في الشأن العام، وبغير ذلك فكل الحلول هي طحن للماء، ورسم على الهواء.