أمريكا وتخلفنا السياسي والاجتماعي

TT

الراصد للحالة العربية الراهنة يستطيع القول من دون تحفظ بأن «الامة العربية» باتت خارج دائرة التأثير تماما، كما هو شأن الامم المهمشة، رغم ان ساحة «الحركة العالمية» وما يستتبعها من مساع جادة نحو اعادة تشكيل «النظام العالمي الجديد» ومراكز القوى القادمة تقع في قلب هذا العالم. ولعل ابلغ تعبير ما صرح به الرئيس المصري قبيل حرب الخليج الثالثة «ان نؤجل الحرب نكون كمن يضحك على نفسه، فهناك كونغرس وادارة امريكية وبرلمان انجليزي يستطيعون تقديم الحرب او بدءها او تأجيلها»، تبعه انهيار دراماتيكي لآخر مظاهر الالتزام العربي تجاه القضايا المشتركة في المؤتمرات والقمم الاخيرة:

لا اكشف سرا ان قلت ان «العرب» يتحملون الجزء الاكبر من سلبيات الوضع الراهن، اذ لم تسنح فرصة للآخر ان يمارس كل هذا الاستبداد لولا التردي الداخلي، ولولا معرفة الآخر بأن الامة لم تعد تمتلك القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة، ولم تعد راغبة في تقرير مصيرها بنفسها، فهي مقتنعة اليوم اكثر من اي وقت مضى بأنها دول تابعة، فالغرب وحده هو القادر على منحها معنى الحضارة، ويلقنها مبادئ الديمقراطية، وينظم شؤونها الداخلية، وهذه القيمومة باتت ضرورة في نظر البعض للدخول في عداد الدول المتمدنة، ومن غيرها ستتخبط جميعها في وحل التخلف الحضاري. ان هذا الشعور القاسي بالهزيمة النفسية، يعد المدخل الاساسي لسيادة الآخر، وبسط هيمنته الشاملة من دون عوائق تذكر. يعتقد الكثيرون من المعسكر الرافض للهيمنة الامريكية، ان الحل الوحيد لاستعادة الدور المفقود يكمن في جلاء القوات العسكرية الغربية من الارض العربية، فالمشكلة هي (امريكا) بثقافتها وجيوشها وهيمنتها واعلامها ومؤسساتها التجارية المتعدية الحدود والجنسيات والقيم، والمبادئ، غير انني اميل الى القول بأن هذه الامور هي نتيجة طبيعية وليست سببا مباشرا، واستعادة الدور المفقود يكمن في البحث عن الاسباب الحقيقية للوضع المتهالك، فالقابلية للاستعمار هي مدخل الاستعمار كما يقول «مالك بن نبي»، ومجمل الثقافة السائدة المتراكمة عبر عقود طويلة من السلبية والاستبداد وافتعال الصراعات الحادة والمريرة وتضييق مساحات الحوار والتفاهم في مشهد اجتماعي غريب سيطر عليه الانفعال والرغبة في الغاء المختلفين مذهبيا وسياسيا هو سبب هامشيتنا الراهنة.

فالصراع بين السلطة والامة اصبح ثابتا من ثوابت الحياة السياسية، صراع لا يوفر جهدا من اجل «كسر عظم» الآخر، استخدمت خلاله كل الوان الالغاء والتهميش، من الطرد والاعتقال التعسفي الى ممارسة العنف السياسي والاجتماعي، انتهى بمشاهد حزينة مليئة بآثار دماء الابرياء الساخنة.

والصراع بين الامة بمذاهبها واطيافها المختلفة اضحى مشهدا مألوفا، واصبحنا نستمع الى اصوات جريئة تدعو للضرب على الوتر الطائفي او القبلي من اجل تحقيق اكبر قدر من المكاسب السياسية والاجتماعية، عبر تحريك عواطف القاعدة العريضة من جماهير الطائفة او القبيلة، ولم نلتفت الى انها دعوى جاهلية تلغي كل معاني السمو الانساني.

والصراع داخل كل طائفة لا يبدو انه يقل ضراوة عن حركة الصراع الدائر خارجها واصبحت ثقافة «الضرورات» مثل «ضرورة الطاعة الحزبية» و«ضرورة الالتزام التنظيمي» مدخلا لتشويه صورة الآخرين، والغاء المختلفين او استبعادهم ان استعصى استعبادهم، عبر التقليل من قيمتهم الاجتماعية او الفكرية او السياسية، واصبح التماثل مطلبا لكل مجموعة افراد كشرط للعيش المشترك، في مشهد لا يقل بؤسا عن حال سوء الانظمة المستبدة، ولو تسنى لبعض اطرافنا تحصيل «القوة والقرار» لمارست كل صنوف الاذلال لاقرب الناس اليها، ويكفي ان نتذكر اننا لم نشهد «الا نادرا» تلك الحركات والاحزاب السياسية في العالم العربي التي تمتلك برنامجا مكتوبا تحدد من خلاله برامجها الاجتماعية والسياسية ووضع وحقوق افرادها، وكيفية زحزحة الصنم الجاثم فوق مؤسساتها المختلفة وطرق اتخاذ القرار وتداول السلطة الرمزية، وعندما نجد بعض ذلك فربما نقول اننا انتقلنا من حلبة الصراع السلبي الى ميدان التنافس الايجابي، وعندها فقط ابشركم بالخير الوفير.

* كاتب من الكويت

[email protected]