البناء الثقافي والسياسي في العراق

TT

أمر طبيعي ان يشهد العراق اليوم ازدحاما في الافكار والاجتهادات والرؤى بشأن مستقبله. فكما هو معروف العراق، يزخر بثروة فكرية وسياسية وثقافية ضخمة، ومن المنطقي جدا ان تتدفق الى الشارع العراقي العديد من المقترحات والتصورات، ومن المنطقي ايضا ان تتباين وجهات النظر والرؤى وان تنحاز مجاميع مختلفة الى جانب افكار وآراء معينة، وهي ظاهرة صحية في ظل مجتمع متميز بتاريخه وثقافته.

يعيش العراق اليوم تحولا تاريخيا بعد انقضاء حقبة الارهاب والقمع التي استمرت في العراق منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما، وهذا التحول وإن كانت ملامحه غير واضحة اليوم بسبب حالة عدم الاستقرار الا انه يمكن الجزم بان الرؤية نحو المستقبل تبدو واضحة لدى معظم اطياف المجتمع العراقي، وهي تتحدد في قيام نظام سياسي تعددي يرتكز على قيم ومبادئ ديمقراطية سليمة من اجل استيعاب تركيبة المجتمع العراقي من جهة وايضا من اجل التعامل البراغماتي مع المناخ السياسي في المنطقة وكذلك مع التحديات الاقليمية والدولية.

وضوح الرؤية العراقية ستسهم بالتأكيد في ادارة حوار بناء مع واشنطن ولندن، وبالتالي حماية مصلحة العراق والشعب العراقي والاسراع في تدشين دستور عراقي ينسجم مع كافة التطلعات ويلبي كذلك متطلبات المرحلة الراهنة والمستقبل، كما ان وضوح الرؤية من شأنه ان يتصدى لاي مشاريع تستهدف وحدة ومصالح العراق وسيادته.

تحولات كهذه لا شك انها تتسم بالصعوبة والتعقيد، خصوصا كونها تأتي بعد فترة طويلة من حكم مستبد خلف تخريبا وتدميرا هائلا في المجتمع العراقي، بدءا من قضايا حساسة للغاية كثروة العراق وعلاقاته الخارجية وعلاقة المواطن بالنظام ودور الشعب في تسخير قدراته وارادته للنظام وليس العكس، اضافة الى التخلف الاقتصادي والاجتماعي وانتهاء بالعلاقات الاجتماعية العادية، وتحديدا علاقة الزوج بالزوجة والابن بالأب والأصدقاء والأقارب.

لا بد من ادراك ان التركة التي خلفها النظام المخلوع قد احدثت شروخا عميقة ضمن المجتمع العراقي الى درجة تمزيق النسيج الاجتماعي وتحطيم القيم الاجتماعية ايضا مثلما حدث على المستويين العربي والاسلامي نتيجة الحرب العراقية ـ الايرانية، وكذلك الغزو العراقي للكويت، فتركة كهذه ينبغي التعامل معها بحذر ويقظة.

مثل هذه الظروف والاحوال لا سيما ظروف التحولات العميقة والتغيير الجذري تبرز الحاجة الى آلية عمل تستهدف البناء الاجتماعي والثقافي في العراق واعادة بناء الثقة ضمن الاسرة العراقية وايضا لدى المواطن مع مؤسسات واجهزة الدولة والنظام من اجل خلق حالة ايجابية من التفاعل والمشاركة الفعالة في اعادة بناء وترميم الحياة في العراق. ومن المهم ان يتركز البناء الثقافي والاجتماعي على تصفية الاجواء والنفوس والتصدي لاحتمالات الانشقاق والانعزال لأي مجاميع، بما في ذلك المجاميع التي كانت يوما ضمن دائرة النظام البائد، فهي مجاميع اضطرت الى ان تكون ضمن الدائرة، ليس حبا في النظام بقدر ما كانت مجبرة على التعامل مع هذا الواقع المؤلم.

العراق بحاجة فعلا الى آلية عمل تجلب له التلاحم ووحدة الصف وليس الفرقة والانشقاق، فعمليات الفرز غير الموضوعية والتصنيف الخاطئ لأي فئة في المجتمع العراقي حتى للفئة التي عملت ضمن ذلك النظام المخلوع يمكن ان تؤدي الى انقسامات لا حدود لها في العراق علاوة على عدم الاستقرار. العراقيون مطالبون بادراك ضرورة افساح المجال للقانون ليأخذ مجراه وليفصل بشأن المذنب الحقيقي والمذنب بغير ارادته، وهم ايضا مطالبون بالسمو فوق الجراح بالقدر الممكن والمستطاع وضمن حدود المنطق والمقبول والمعقول ايضا، فمستقبل العراق المنتظر يتطلب تضافر كافة الجهود وتوفر حسن النوايا والارادة الموحدة.

التحديات السياسية في العراق لا شك انها كبيرة، ولكنها ليست بقدر التحديات الثقافية والاجتماعية، فمن الصعب إن لم يكن مستحيلا معالجة الجوانب السياسية في ظل مجتمع متآكل تنعدم فيه الثقة ومشاعر الولاء والانتماء ويسيطر عليه مخزون من المرارات.

الكل في العراق وخارجه ايضا لا يعلم بموعد انتقال السلطة الى العراقيين بالكامل وما يجري الآن على الساحة العراقية يفترض ان يكون ضمن الاعداد لمستقبل العراق وولادة دستور دائم ونظام جديد، ولكن عملية البناء الثقافي والاجتماعي يمكن ان تبدأ وتنطلق اليوم من داخل العراق وخارجه وبمعزل عن اي ترتيبات سياسية وبغض النظر عن الظروف الحالية التي يعيشها العراق.

مخزون المرارة والتناقضات التي خلفها النظام المخلوع ليس امرا بسيطا وهينا، ومحو تلك التراكمات الثقافية يستوجب ادراك هذا الوضع الصعب والعمل المتواصل باتجاه التوعية والتنوير والثقيف من اجل خلق حالة تعبوية واستعداد لدى الشعب العراقي للتعامل مع التحديات المستقبلية حتى لا ينشغل العراقيون بنزاعات داخلية، وبالتالي يتمزق العراق وتتراجع التحولات المحتملة ويفقد العراقيون السيطرة على بلادهم.

النهوض بالبناء الثقافي والاجتماعي واعادة ترميم الحياة في العراق هما مسؤولية كافة التنظيمات التي قادت على مدى السنين المعارضة السياسية وايضا المفكرين المستقلين الاعلاميين والنخبة في المجتمع العراقي، وهم وحدهم القادرون على تدشين البداية.

نجاح النخبة في العراق في التصدي لتركة النظام المخلوع والتراكم الثقافي من شأنه ان يسهم بصورة رئيسية في اعادة ترميم وتصحيح علاقات العراق الخارجية سيما علاقات العراق مع الكويت التي تحتاج ايضا الى اعادة بناء ثقافي واجتماعي.

هناك العديد من التجارب التي شهدها العالم والتي اودت بمشاريع وتحولات واعدة الى الفشل، وقد اثبتت هذه التجارب ان التفاعل الجماهيري والرضى الشعبي والفهم الصحيح والسليم لأي تحولات وتغيير، عوامل نجاح اساسية وهذا ما نتمناه للعراق.

* إعلامي كويتي