أفكار ومشاعر على الهواء

TT

خلال شهر مارس الماضي، ومرة أخرى في الأسبوع الماضي، أتيح لي أن أستضيف حواراً تلفزيونياً جمع بين طلاب يدرسون في الولايات المتحدة ومجموعات من العراقيين في بغداد. وقد تم نقل كلا البرنامجين على الهواء من تلفزيون أبوظبي. وكلاهما، في اعتقادي، يجسد الدور الإيجابي الذي يمكن للتلفزيون أن يلعبه في تنمية وتفعيل النقاش في ما بين الحضارات.

أذيعت الحلقة الأولى من البرنامجين في يوم 12 من مارس، أي قبل بداية الحرب بيومين فقط، واستمرت لأكثر من ساعة. شارك فيها 150 طالباً من كلية دافيدسون وهي واحدة من الكليات الرئيسة للآداب الحرة في الولايات المتحدة، وكان نقاشهم حياً ومثمراً تبودلت فيه الأفكار والآراء مع 100 طالب من جامعة بغداد.

ومهما كانت درجة الفائدة التي حققها ذلك النقاش، فنحن على علم تام بالمستوى غير المتناسق بين الطرفين والذي كان يميز الحوار. من جهة ثانية فإن الطلاب الأميركيين كانوا يشعرون بحرية تامة في إجراء نقاش مفتوح وصريح حول حكومتهم وما يدور بشأن الحرب الوشيكة الحدوث،على خلاف الشعور بعدم الاطمئنان الذي كان يساور الطلاب العراقيين في الحوار. وفي المقابل بينما كان يعيش الطلاب العراقيون حالة من الرعب والهلع جراء التهديدات الحتمية لضربة أميركية، لم يكن يساور الطلاب الأميركيين مثل هذا الشعور البتة.

وعندما طلبنا التصويت برفع الأيدي لمعرفة المؤيدين والرافضين للحرب، كانت الأغلبية الساحقة من الطلاب الأميركيين من الرافضين لخطط الرئيس بوش الرامية لشن الحرب على العراق، وكان لهذا التصرف أثره الكبير في دهشة الطلاب العراقيين حول كيفية إبداء الأميركيين لذلك الإعلان الصارخ ضد حكومتهم.

أما الطلاب الاميركيون فقد انزعجوا كثيراً من حقيقة أن العراقيين لم يبدوا أي نوع من النقد لحكومة بلادهم وسياساتها. وعند متابعة هذه النقطة عبر العديد من الأسئلة اللاحقة، تساءل الطلاب الأميركيون إذا كان تأييد نظرائهم العراقيين للنظام البعثي أمراً موثوقاً به، فكان التصويت على ذلك سلبياً بأغلبية كبيرة.

وعند هذه النقطة تحديداً وصل الحوار الى أكثر مراحله إثارة وعنفواناً، حيث نهضت شابة عراقية ويبدو أنها امتلأت إحباطاً من الحوار بأكمله قائلة: « نعم .. هناك أشياء كثيرة نرغب في تغييرها.. ولكننا في الوقت الحاضر نركز جل اهتمامنا حول تغييرات أكبر وأهم، فنحن نفكر في إيقاف الحرب علينا، كما نفكر كثيراً في معاناتنا مع الحصار الاقتصادي المفروض علينا. إن وضعنا شبيه تماما بما حدث لكم في مأساة 11 سبتمبرحيث أوقفتم أي انتقاد سواء أكان للحكومة ام لأي شيء آخر. لأنكم كنتم تعانون من أزمة حقيقية، وهو بالضبط ما نعاني منه الآن».

وبقدرما اهتزت مشاعر الطلاب الأميركيين من هذا الموقف، إلا أن ذلك لم يضارع ما أبدوه من ألم ومؤاساة عند نهاية البرنامج، حينما سئل الطلاب العراقيون حول هل منهم من فقدوا أفراداً من أسرهم خلال الحرب العراقية الإيرانية، وهل منهم من فقد أي قريب له خلال عقود الحصار الاقتصادي ضد العراق؟ فكان عدد الأيدي التي ارتفعت مهولاً ومذهلاً.

أما الحوار الثاني الذي أدير بين الأميركيين والعراقيين فقد تم الأسبوع الماضي تحت ظروف مختلفة بشكل جذري تماماً. لقد شارك الطلاب الأميركيون ذاتهم، أما الطلاب العراقيين فقد اختفوا هذه المرة نسبة الى ما يسود العراق الآن من فوضى. ومع عدم وجود اتصالات هاتفية أو بريدية، وبما أن المسألة الأمنية تشكل هاجساً كبيراً على نطاق القطر، فقد عمل تلفزيون أبوظبي من دون كلل لتقديم جمهور من مواطنين عراقيين يمثل وجهة نظر الطرف الثاني.

لقد انتهت الحرب وأطيح بالطاغية.. وأميركا هي التي تتحكم في زمام الأمور الآن. وبينما كنا نتوقع جميعاً أن يسود خطاب سياسي مختلف تماماً في بغداد، فإنه من الواضح تماماً الآن أن العراقيين يتملكهم غضب عارم من تصرفات الولايات المتحدة في بلادهم.

وفيما عبر العديد من العراقيين المشاركين في النقاش عن ارتياحهم لإطاحة النظام السابق، إلا أنه وبسؤالهم عما يعتقدون بأن الحملة الأميركية كانت لتحريرهم أم لاحتلالهم، أجاب حوالي 90 في المائة منهم بأنهم يرون في الولايات المتحدة قوة محتلة لبلادهم . ومع استمرار وتفاعل النقاش، بدا واضحاً أن المصدر الأساسي للغضب العراقي كان يتمثل في ما اجتاح بلادهم من فوضى وتخريب. لقد انزعج وتألم العراقيون من ظاهرة النهب والسرقة التي صاحبت الغزو، وهي ظاهرة يوجه العديد من المشاركين في البرنامج أصابع اتهامهم فيها الى القوات الأميركية باعتبارها إما أنها سمحت بها أو شجعت على تفشيها. وفي الوقت نفسه كان جميعهم متفقين على ما أصابهم من إحباط وألم لانفلات الأمن والنقص المريع في الخدمات ثم في تدمير البنية التحتية لبلادهم.

وبعد سماع العديد من آراء المشاركين مشيرين الى حالة الفوضى في بلادهم كجزء من المؤامرة الأميركية لتبرير بقاء قواتها في العراق، تحدث من بغداد المفكر العراقي جابر عبيد الذي يستضيفه تلفزيون أبوظبي محاولاً دفع العراقيين الى التفكير حول الوضع بطريقة أكثر تحليلاً. ولكن المشاركين لم ينصاعوا كثيراً لنصائحه. وكانت استجابتهم في الغالب تظهر في تعليقات على نحو: «إذا كان الأميركيون صادقين فعلاً في سياستهم لتحريرنا، كان الأجدر بهم أن يخططوا لما بعد الحرب كما أحسنوا التخطيط للحرب نفسها.. لماذا سارعوا الى حماية الثروة النفطية، ولم يعيروا اهتماماً للمتاحف والمستشفيات، ولماذا بعد كل الذي حدث مازلنا نعاني من انقطاع الطاقة؟» وهكذا..

ومما يبدو جلياً اشتداد اليأس بهم، فقد ظلوا يرددون مقولة أنهم استبدلوا نظاماً جائراً بآخر، ويقول أحد العراقيين معلقاً بسخرية: «كنا في الماضي نمارس نقاشاً كهذا، وكانت الشرطة السرية تتنصت علينا. أما الآن فمن الذي يتنصت علينا؟ لا أحد يسمعنا الآن».

أما الجانب الأميركي فقد أصيب بالاضطراب كثيراً بعد سماع هذه التعليقات المؤثرة والمؤلمة من الشعب العراقي. ولعله من المدهش ايضاً ملاحظة ان أغلبية الأميركيين الذين كانوا يعارضون الحرب في الأساس، أصبحوا الآن يرون أن الولايات المتحدة تقع عليها إزاء الوضع الراهن مسؤولية كبيرة تحتم بقاءها في العراق، للمساعدة في استتباب الأمن ومساعدة إنشاء حكومة عراقية جديدة تمثل الشعب العراقي وموافاتها بكل وسائل الدعم اللازم للنهوض بمستوى العراقيين في بلادهم.

وكان من بين المشاركين الأميركيين، سفير أميركي سابق، وضابط استخبارات سابق برتبة عالية، وطالب متميز. وقد أبدى جميعهم الكثير من القلق والاهتمام بما يجري. ومع اقتراب الانتخابات الأميركية العامة في عام 2004، فإن القلق يتزايد بأن الولايات المتحدة ربما تجعل من العراق طعماً للناخبين مثلما حدث بالنسبة الى أفغانستان.

وقد خلصنا من مجريات النقاش في هذه الحلقة الثانية من البرنامج الى ان الولايات المتحدة لم تغز العراق فقط كبلد وإنما غزت تاريخ ذلك البلد. ولا ندري إن كان لحسن الطالع أو لسوئه، فإن الولايات المتحدة ستلعب دوراً في مستقبل العراق. وعلى الولايات أن تقرر إما أن تفي بالتزاماتها الأخلاقية وتجعل من العراق بلداً حراً ومزدهراً أو تتركه في وضع أسوأ مما كان عليه عندما دخلته في مارس 2003.

لقد أصبح العراقيون أحراراً اليوم، ليس فقط في انتقاد نظامهم المنهار بل في انتقاد «محرريهم» أيضاً.

وما تمخض عن هذين البرنامجين من نتائج يكمن في أهمية الحوار والمخاطبة السياسية. وفي كلا المرتين وبرغم أن كلا الطرفين قد توصل الى فهم الآخر، فما زال هناك جزء كبير من النقاش بقي كحوار الطرشان. فقد ظل كل طرف من الأميركيين المؤيدين للحرب والمناوئين لها على حالهما من المثالية الخالصة. وكذلك الحال بالنسبة للعراقيين فقد ظلوا قبل الحرب وبعدها يتصفون بالواقعية الشديدة. وبينما يود الأميركيون مشاهدة أنفسهم في موقع من يقدم المساعدات والقيم للآخرين مع التركيز على سياستهم في هذا الجانب، يبقى العراقيون منطقياً ومن خلال ما جرى من نقاشات قلقين مما سوف تخلفه هذه الأعمال العسكرية من أثر على حياتهم.

ولو قدر لأميركا ان تلعب دوراً أفضل، فإنه يتوجب على الأميركيين بذل جهد أكبر في حسن الاستماع والتعلم قبل الفعل; حتى يتسنى لهم نقل ما لديهم من واقعية للطرف الآخر الذي سيتأثر بالأفعال الأميركية.

إن هذه الحوارات التي نجريها عبر الحضارات تساهم بشكل قوي في فهمنا للشعوب، ومن شأنها أيضاً المساعدة في تشكيل السياسات. وكم هو رائع أن يستمر تلفزيون أبو ظبي في تخطيط مثل تلك اللقاءات.

*رئيس المعهد العربي ـ الأميركي في واشنطن