إنجازات الإرهاب المستقبلية

TT

مراجعة الظروف التي تمت فيها العمليات الانتحارية في المنطقة، توصل الى استنتاجات، منها ان تلك العمليات تظهر وكأنها نحر للمواطن والامن والسياسة والاقتصاد العربي، بل تشير الى فائدة اسرائيلية بحتة رغم ان المنفذين عرب. ذلك لا يعني ابداً الاندفاع لتصديق نظرية المؤامرة، لكن بالطبع الى تلمس فوضوية العقلية الاصولية التدميرية، وذكاء الخصوم في تجيير الاحداث، وبالطبع توفر المناخ المحلي لانتشار الافكار الرجعية المتشددة التي يسبح فيها الاصوليون.

خلال اقل من اسبوع وقعت تفجيرات الرياض وباكستان والدار البيضاء وخمس عمليات انتحارية في فلسطين. هناك فارق بالطبع بين الارهاب المحلي وبين العمليات الفلسطينية ضد الاحتلال، رغم ان الاخيرة قد تأتي في وقت غير مناسب ومختلف عليها وطنياً، ولكنها في هذه الظروف تتماشى مع العمليات الاخرى بهدف احباط رؤية الرئيس الاميركي للحل عبر «خريطة الطريق». تلك الخريطة المرفوضة ايضاً من شارون واليمين الاسرائيلي ومراكز التأثير المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة، اذ يرى هؤلاء ضرورة استبدال المكان الجغرافي الذي يريد الرئيس بوش ان تقوم عليه فلسطين، وهو الاردن بدل الضفة والقطاع.

للتذكير، يجب القول بوجود صراع الآن، عشية الحملة الانتخابية الرئاسية، في كل من اسرائيل واميركا، بين الذين يرون في مرحلة ما بعد العراق فرصة للضغط على شارون لتطبيق «خريطة الطريق» وقبول الدولة الفلسطينية بحلول عام 2005، وبين الذين يرون في ما بعد العراق فرصة ذهبية لكسر الشوكة الفلسطينية تماماً، وطرد اكبر عدد منهم خارج بلادهم، وحل قضيتهم على حساب الاردن الجار.

اثناء الاجتماع الاخير بين وزيري الخارجية باول وشارون، حرص الاخير على اشراك ممثلين من حكومته يؤيدون تيار رفض «خريطة الطريق». وقبل ان يصل باول في جولته للرياض حدثت التفجيرات هناك، وتبعتها عمليات انتحارية فلسطينية، وتلتها تفجيرات الدار البيضاء وغيرها، فألغى شارون رحلته المقررة الى واشنطن حيث كان ينتظر ضغطاً من الرئيس بوش. وبالطبع لم يهدر شارون الوقت قبل طرح نظرية معدة سلفاً: الارهاب لا علاقة له بالاحتلال، ولا يقتصر على اسرائيل واميركا، فها هو من المحيط الى ما بعد الخليج، ولا بد من وحدة عالمية للقضاء عليه اولاً لانه يحارب التوصل لحلول سياسية.

الى ذلك، كان شارون قد تسلح للدفاع عن موقفه ورفضه لـ«خريطة الطريق» عبر الارهاب الذي اوقعه بالفلسطينيين لاستثارة الرد الانتحاري، وبالتالي الادعاء بأن الفلسطينيين يرفضون عملياً «خريطة الطريق» اذ يرفضون التوقف عن «الارهاب». بل ذهب الى تحميل مسؤولية العمليات للرئيس الفلسطيني الذي يريد افشال الحكومة الجديدة برئاسة ابو مازن، حسب المعزوفة الاسرائيلية طبعاً.

من نافل القول ان تل ابيب، والليكود تحديداً، لا يرغبان في انتشار الديمقراطية في المنطقة وتحسن العلاقات بين شعوبها وبين الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد نهاية نظام صدام في العراق، وبالتالي فأي فوضى ارهابية في دول المنطقة العربية والشرق الاوسط سوف تضر بفرص التطبيق الديمقراطي وأي انفتاح، وهذا يعني تفرد اسرائيل بادعاء الديمقراطية.

مفهوم الفئات الاصولية للديمقراطية يقتصر على توليها الحكم والغاء الانتخابات بعد ذلك. واذا لم تصل للحكم بالانتخابات فلا بأس من الترويع الفوضوي، كما حصل في الجزائر ومصر سابقاً، والسعودية والمغرب الآن. الغريب ان تنظيم «القاعدة» ومعه الذين يسيرون في هواه وبأمواله، هم نتاج وصناعة اميركية بحته وعلنية، ولكنهم الان يتهمون حكومات اسلامية بالارتباط بأميركا في وقت نرى فيه تعارضا اميركيا مع تلك الحكومات. فالمغرب وقف ضد الحرب الاميركية على العراق، والمملكة العربية السعودية موقفها مشهود ضد الحرب، بل رفضت استعمال قواعدها ولو لأمور قيادية وغير عسكرية، ثم طلبت سحب القوات الاميركية اخيراً، وبعد ذلك جاءت العمليات الارهابية في الرياض!

علينا هنا التأمل في المعطيات التالية: كانت السعودية طوال العقود الماضية هي الاكثر تأثيراً بصورة ايجابية على السياسة الاميركية وفي خدمة القضايا العربية واولها فلسطين، مما جعل هذه العلاقة السعودية ـ الاميركية شوكة في حلق اسرائيل. بعد احداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001 تركز الضغط الاعلامي الصهيوني ـ الاميركي على المملكة وحملها جزءا كبيرا من المسؤولية، رغم ان المنفذين وزعيمهم اسامة بن لادن يتظاهرون وكأنهم يريدون اخراج القوات الاميركية من شبه الجزيرة العربية. بعد هدوء الزوبعة قليلاً، والاستجابة العربية للرؤية الاميركية باعتماد الانفتاح والديمقراطية، واقتراب موسم الضغط الاميركي على شارون، جاءت التفجيرات الاخيرة لتعيد التوتر في العلاقات وتجدد الاتهامات الاميركية للسعودية بأنها لا تتعاون في التحقيق وملاحقة الارهاب. بمعنى آخر الضغط لاعادة الاميركيين للمنطقة ولو من باب الامن والتحقيق. وبالطبع إبعاد واشنطن عن المطالبة بالاصلاح الديمقراطي وتبنيها لسياسة الضغط والقمع في ملاحقة الجناة وكل ما يمت لهم عملياً ونظرياً من هياكل ومؤسسات في المجتمع.

في خطابه الاخير في جامعة ساوث كارولاينا قبل اسبوعين، كان الرئيس بوش يشيد بالديمقراطية الاسلامية في تركيا واندونيسيا والبحرين والمغرب التي شهدت انتخابات حديثة، واشاد بالاردن التي تنتظر الانتخابات الشهر القادم، وتوقع خيراً من تقدم فكرة الدستور القطري ورؤية ولي العهد السعودي الامير عبد الله للاصلاح الداخلي العربي. هذه الخطوات وغيرها من الانجاز الاصلاحي بعد الحرب في العراق كانت ستؤدي للانتشار التدريجي للديمقراطية. اما الآن وبعد العمليات الارهابية فسوف لن يعلو صوت على صوت ملاحقة الارهاب المحلي والاقليمي والعالمي، فهل ذلك في مصلحة الشعوب والاسلام وقضايا الوطن؟

من هم ضحايا ذلك الارهاب؟ الانتحاريون انفسهم، وغالبية الضحايا والجرحى هم من العرب. ظاهرياً اختيرت الاهداف وكأنها غربية... مجمع سكني غالبية سكانه من العرب والسعوديين في الرياض، ومطعم اسباني كل رواده من المغاربة في الدار البيضاء، ومعبد يهودي فارغ من أي انسان، ولكن انتحاريان فجرا نفسيهما في المكان! وفندق تملكه شركة عربية.

حتى لو كان كل الضحايا من الغربيين وبلغ عددهم الآلاف، فهل هناك مبرر لقتل الضيوف، او المدنيين الخبراء في تسيير اقتصاد البلاد، او السياح الاجانب؟ ان السياحة بالنسبة للمغرب وتونس ومصر تعادل في اهميتها الاقتصادية النفط والغاز في دول الخليج وليبيا والجزائر والعراق، فبأي منطق يمكن تدمير هذا القطاع الاقتصادي في دول فقيرة وبهذا الاسلوب الخسيس؟

لقد اعتمدت اسبانيا، وفي بحر عقدين من الزمن بعد تلخصها من الديكتاتورية العسكرية والاصولية الكاثوليكية، على السياحة والديمقراطية لبناء الذات، واصبح الدخل القومي الاسباني الان يعادل الدخل في كل الدول العربية، فالى اين يريد الاصوليون دفع العرب والمسلمين من جراء تلك الممارسات التدميرية؟

اذا استمر هذا الجنون الفوضوي الارهابي ضد الاصلاح والديمقراطية ومصادر الدخل، واذا تواصلت مساعي جر الامة للتخلف، فمن غير المستبعد تولد تعاطف انساني بين كل المعارضين والمتضررين من الارهاب ضد المدنيين في الشرق الاوسط والعالم، أي بوضوح وبجلاء: الضرر بالقضية الفلسطينية، وتبرير السياسات الاسرائيلية، وتشويش صورة الاسلام واضعاف انتشاره بين شعوب العالم... ام هناك انجازات اخرى لهذا العبث؟