خوزيه ماريا أثنار في مواجهة الشارع

TT

حين ولد خوزيه ماريا اثنار في مدريد عام 1953، كانت اسبانيا قد خضعت خضوعا كاملا لـ «الكوديلو»، اعني بذلك الجنرال فرانكو. وكان خصومه السياسيون يعيشون في المنافي القريبة او البعيدة، او هم في السجون او خاضعون لمراقبة مشددة من قبل الاجهزة الامنية العلنية والسرية. وكانت عائلة خوزيه ماريا اثنار منسجمة الى حد كبير مع سياسة النظام، ومع الخط العام الذي رسمه للبلاد، بعد ان خرج منتصرا من تلك الحرب الاهلية الطاحنة التي ظلت تصبغ اسبانيا بالدم على مدى ستة اعوام. وكان والده مديرا للاذاعة الرسمية. اما جده الذي كان يوصيه دائما بالالتزام بالقواعد «الذهبية» الثلاث التالية: «الحذر والصبر والاصرار»، فقد كان سفيرا وصحافيا. وخلال الدراسة، وبالرغم من انه كان طالبا جادا وذكيا، فإنه لم يظهر ما يمكن ان يشير الى انه سوف يحظى بمستقبل سياسي باهر. وبعد ان درس القانون، بدأ يعمل متفقدا للمالية، وعندما توفي فرانكو اواسط السبعينات، بدأت اسبانيا تهيئ نفسها لحياة ديمقراطية تنهي سنوات الجليد التي عاشتها على مدى عقود طويلة، ومهتما بما كان يدور حوله، شرع خوزيه ماريا اثنار يعلن على رؤوس الملأ بأنه يكن التقدير والاحترام لطروحات اليمين المحافظ المتمثل في «الكتائب الاسبانية» التي عاضدت فرانكو خلال الحرب الاهلية، مبديا احترازا امام الدستور الجديد الذي كان يعد من قبل القوى والاحزاب السياسية التي كانت محجرة حتى ذلك الوقت. وذات يوم استمع الموظف الشاب ذو الشارب المشذب جيدا، والذي كان له مظهر «بورجوازي صغير بلا هموم كثيرة» على حد من كانوا يعرفونه في تلك الفترة الانتقالية في حياة البلاد، الى خطاب القاه مانويل فراغا ايريبارن الذي كان قد اقنع صديقه فرانكو مطلع الستينات بضرورة فتح ابواب اسبانيا امام السياحة والتكنولوجيا المتطورة، فانجذب اليه ليصبح، منذ ذلك اليوم، معلمه الروحي في مجال السياسة. وشيئا فشيئا اكتشف خوزيه ماريا اثنار ان معارك السياسة يمكن ان تنقذه من الحياة الوظيفية الرتيبة التي كان يعيشها بصحبة زوجته آنا في احد الاقاليم البعيدة عن العاصمة مدريد. وفي الحين قرر الانتساب الى حزب التحالف الشعبي ذي النزعة اليمينية. وعندما لاحظ معلمه الروحي «دون مانويل» انه يمكن ان يكون «مفيدا» طلب منه وهو في السابعة والثلاثين من عمره ان يكون على رأس الحزب الشعبي الذي كان قد أسسه بهدف اعادة تنظيم صفوف اليمين الاسباني، وبلورة طروحات جديدة تنسي الناس الماضي الفرانكي (نسبة الى فرانكو) الاسود.

وكان الانتصار الاول الذي حققه ماريا اثنار هو اسقاط حكومة اليسار الاشتراكي بزعامة فيليب غونزاليس الذي كان يتمتع بشعبية كبيرة، والذي يعود اليه الفضل في ارساء الديمقراطية في اسبانيا.

ومستفيدا من الصراعات الداخلية التي كانت تمزق الاشتراكيين، فاز خوزيه ماريا اثنار للمرة الثانية في انتخابات عام 2000، ومبتهجا بذلك صرح قائلا: «كل شيء يدل على ان اسبانيا بخير. وسوف اعطيكم الدليل مرة اخرى على ان الاوضاع سوف تكون افضل في المستقبل». وكان على حق فقد اصبحت اسبانيا في فترة حكمه «متفائلة وحيوية ومتصالحة مع نفسها» على حد تعبير احد المعلقين السياسيين، كما انها تمكنت من تحقيق انخفاض هائل في نسبة البطالة، الشيء الذي خول لها ان تكون في مقدمة بلدان الاتحاد الاوروبي الاكثر تطورا على المستوى الاقتصادي.

ولعل ذلك الانتصار الثاني الذي حققه، والذي اتاح له الحصول على الاغلبية الساحقة داخل البرلمان، هو الذي جعل خوزيه ماريا اثنار يشعر بأن اسبانيا لم تعد تسعه، وان عليه بالتالي ان يلعب دورا اكبر، خصوصا على المستوى الاوروبي. وقد ازداد هذا الشعور حدة عقب هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 الارهابية التي استهدفت برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن. فحتى ذلك الوقت كان يشعر بان اسبانيا تواجه وحدها عنف منظمة الباسك الانفصالية، وان بقية بلدان الاتحاد الاوروبي لا تقدم الدعم اللازم لمواجهة المخاطر الناجمة عن ذلك. وربما لهذا السبب بدأ يرى ان الولايات المتحدة الاميركية التي اعلنت الحرب على ما اصبحت تسميه «الارهاب العالمي»، يمكن ان تكون حليفته الافضل للقضاء على منظمة الباسك الانفصالية. وعندما رأست اسبانيا الاتحاد الاوروبي خلال عام 2002، رفعت الشعار التالي: «منظمة القاعدة ومنظمة الباسك الانفصالية شيء واحد». ويقول احد المختصين في شؤون السياسة الاسبانية: «لم يكن الارهاب وحده هو الذي دفع خوزيه ماريا اثنار الى أن يرمي نفسه في احضان الرئيس الامريكي جورج بوش، وانما ايضا احساسه بأن هناك وضعا سياسيا جديدا بدأ يولد على المستوى العالمي عقب هجمات سبتمبر الارهابية. لذا بدأ يعتقد انه يتحتم عليه ان يكون الى جانب القوة التي سوف تكون الاكثر فاعلية في مثل هذا الوضع العالمي الجديد، اعني بذلك الولايات المتحدة. وقد ازداد تقرب خوزيه ماريا اثنار من واشنطن عند اندلاع الازمة بين اسبانيا والمغرب خلال صيف 2002 بسبب جزيرة «ليلى»، فقد تقاعست بلدان الاتحاد الاوروبي عن تقديم المساعدة المنتظرة من قبل مدريد، في حين هب البيت الابيض للقيام بدور الوسيط عبر وزير الخارجية كولن باول. ويضيف المختص في الشؤون الاسبانية نفسه: «لقد تغير خوزيه ماريا اثنار كثيرا خلال العام المنصرم. فعلى المستوى الاوروبي، يريد ان تكون هناك اوروبا قوية، لكن بدون محور باريس ـ برلين. وهو يعتقد ان اسبانيا لا بد ان تلعب دورا اكبر داخل الاتحاد الاوروبي، لذا فهي ترغب في التحرر من فرنسا والمانيا وذلك بالتحالف مع الدول الجديدة التي ستلتحق العام المقبل بالاتحاد المذكور، اعني بذلك دول اوروبا الشرقية بهدف خلق ما يسميه «اوروبا الجديدة».

وفي ضوء التغيرات الجذرية التي حدثت له، اختار خوزيه ماريا اثنار مساندة الولايات المتحدة وبريطانيا في حربهما ضد العراق. ومفسرا ذلك، يقول احد اقطاب الحزب الاشتراكي الاسباني: «يرى خوزيه ماريا اثنار ان اسبانيا يجب ألا تظل على الهامش مثلما كان حالها خلال القرن العشرين، لذا فقد اختار ان يكون الى جانب الولايات المتحدة حتى يكون الى جانب الشق المنتصر عقب الحرب ضد العراق، والتي سوف تفضي حسب رأيه الى وضع عالمي جديد».

امام هذه الانحرافات الخطيرة في السياسة الخارجية الاسبانية، نزل الاسبان الى الشوارع في العاصمة مدريد، وفي مختلف المدن الكبيرة الاخرى للتنديد بالحرب ضد العراق، مطالبين خوزيه ماريا اثنار بالاستقالة فورا. غير ان هذا الاخير الذي يقال انه ازداد تسلطا خلال الفترة الاخيرة، وبات لا يولي اهتماما كبيرا بالرأي العام في بلاده رد على ذلك قائلا، وبنبرة الواثق من النصر في الانتخابات القادمة: «الشرعية تستمد من مكاتب الاقتراع، وليس من الشارع».