11 سبتمبر عربي

TT

في الوقت الذي تتفق فيه تفجيرات الرياض والدار البيضاء الاسبوع الماضي مع تلك التي شهدتها نيويورك وواشنطون قبل قرابة العامين في استخدام الاسلوب الانتحاري وان المحرك لهما تنظيم «القاعدة»، مما يثير اسئلة استراتيجية ومستقبلية ذات طبيعة نوعية، الامر الذي يجعل مما حدث طبعة عربية من الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) لرصيفها الامريكي بكل المقاييس، الا ان قياس الاثنين يوضح كبر الفارق بينهما في واقع الامر.

في التساؤل عن اسباب الكراهية التي ادت الى موجة العنف تلك، توصلت الادارة الامريكية ونجحت الى حد بعيد في تسويق الفكرة الى العقل الجمعي، ان حضارته واسلوب حياته وحرياته والبحبوحة الاقتصادية التي يعيش فيها، هما مثار الحسد والحقد الذي عبر عن نفسه بالعنف الاعمى في التفجيرات، وان ذلك العنف في جوهره تعبير عن الازمة التي يعيشها العالم العربي تحديدا والاسلامي بصورة عامة، وان فشله في مواجهته لذاته ومشاكله القديمة المتجددة دفعه الى الهروب وتصدير تلك المتاعب الى المجتمعات الغربية الناجحة والناهضة وعلى رأسها نموذجها الامريكي.

رد الفعل الامريكي الذي وصل قمته بغزو العراق شهد وللمفارقة تراجعا في ميدان الحريات المدنية وانطلاقا في رغبات انتقامية تكاد تعيد انتاج مرحلة المكارثية وتصاعد نغمة الوطنية التي تجعل كل صوت نشاز حتى في وسائل الاعلام او الدوائر الاكاديمية، متهما في ولائه الوطني. ووصل الامر الى المرحلة المؤسسية من خلال انشاء وزارة للامن الوطني لاول مرة في تاريخ الولايات المتحدة وقيام وزير العدل النشط جون آشكروفت بانتهاز الفرصة لتطبيق برنامجه المحافظ الذي يكاد يهدم بعض الاسس التي يفترض انها سبب الحقد العربي والاسلامي على الولايات المتحدة. وللعلم فان تعيين آشكروفت قوبل بمعارضة شديدة من مجموعات حقوق الانسان والتيارات الليبرالية، بل وحتى من داخل الحزب الجمهوري نفسه، وذلك بسبب مواقفه المحافظة التي وجدت في احداث الحادي عشر من ايلول الغطاء اللازم لوضعها موضع التطبيق دون ان تصبح مثار جدل عام.

رد الفعل الامريكي تقاصرت رؤاه ليصبح معبرا عن شريحة من المحافظين الجدد وجدوا من الانسب لهم التحرك وبجرأة حتى خارج اطار الشرعية الدولية. ومن يجد في نفسه الثقة والقدرة على السباحة خارج التيار العريض لمجتمعه الداخلي ويتمكن من تجنيد دعم شعبي لسياساته تلك، فهو اقدر بلا شك على التعامل بعنجهية مع بقية العالم، وهو الموقف الذي يعبر عنه خير تعبير وزير الدفاع دونالد رمسفيلد بتعليقاته اللاذعة وعدم تحمله لأي انتقاد. ولهذا لم يكن غريبا ان تنتهي واشنطون الى موقف معاكس تماما للمقدمات التي بدأت بها في حربها ضد الارهاب.

والمفارقة انه في الوقت الذي يتصاعد فيه النفس الامريكي امنيا في الداخل وعسكريا في الخارج، فان المنطقة العربية المأزومة تتوصل الى قناعة بان الحل الامني ليس هو الوحيد والناجع في مواجهة تراكمات عقود من الفشل والاخفاقات، ومنذ سيطرتها على مصيرها السياسي، ناهيك مما سبقها من فترات برز فيها الوعي بضرورة التغيير منذ اواخر القرن الثامن عشر.

تراكم الفشل المتنوع من الحلول العروبية والاسلاموية التي جربتها المنطقة طوال عقود سعى خلالها كل طرف الى الغاء الآخر، لم يؤد الا الى زيادة الاحتقان وتعظيم الثمن الذي ينبغي دفعه فيما بعد. وفي عمليات الاصلاح السياسي والدستوري والاقتصادي التي تشهدها العديد من البلدان وبدرجات متفاوتة، محاولة للخروج من المأزق عبر فتح النوافذ سواء بتقليص دور الدولة في ادارة العملية الاقتصادية، او فسح الطريق امام مؤسسات المجتمع المدني وشيء من المشاركة في السلطة السياسية بمختلف الصيغ من اقامة لمجالس الشورى المعينة في حدها الادنى الى السماح بالتداول السلمي للسلطة في الحد الاعلى وما بينهما.

وهنا كان يفترض للدور الامريكي ان يكون مساعدا في استكشاف الطريق الجديد ويفتحه في النهاية امام إعمال الفكر والسماح لمائة زهرة ان تتفتح، وذلك على اساس عدم وجود وصفة واحدة ووحيدة للتطور الانساني وانه من الضروري استصحاب الارث الثقافي المتنوع للمجتمعات المختلفة. تهميش هذا الجانب يجعل الجهد الامريكي والغربي عموما، حتى على افتراض سلامة نيته، ممارسة اقرب الى التجربة الاستعمارية التي رفعت شعارات عالية لتمدين وتغيير المجتمعات المتخلفة عبر قالب واحد متجاهلة ارثها الثقافي وحضارتها القديمة، مما ادى الى انقطاع في مجرى التطور الطبيعي واسهم في حالة الاحتقان المزمنة التي طالت الوجود الغربي بداية حتى انتهى الامر بالاستقلال السياسي، وها هي الآن تعيد انتاج الازمة عبر توفر البيئة المناسبة لتفريخ العداء للغرب الذي يعبر عن نفسه من خلال الارهاب الاعمى الذي يعكس حالة من الاحباط والاتجاه الى التدمير بسبب العجز عن البناء والتغيير.

وبعيدا عن الجوانب الخارجية والاستراتيجية فان الفشل الراهن للادارة الامريكية اصبح مثار انتقاد متزايد داخل الولايات المتحدة نفسها. واي مسح سريع للمشهد الاعلامي يوضح ان تزايد القناعة بان النصر العسكري السريع والباهر في العراق معرض للتآكل بسبب عدم القدرة على مواجهة تبعات ما بعد القضاء على النظام، وان تجاهل الرئيس جورج بوش الطويل للاوضاع المتفجرة في منطقة الشرق الاوسط اصبحت تتطلب منه ثمنا اكبر، وان الوضع الاقتصادي خاصة في جانب تزايد اعداد العاطلين عن العمل يهدد بوش الابن بمصير بوش الاب. وتكاد افتتاحيتا كل من «نيويورك تايمز» و«واشنطون بوست» يوم الثلاثاء الماضي تتفقان على ان الكثير من العواصف تتجمع لتهب في وجه بوش في الوقت الذي يتهيأ فيه لخوض معركته الانتخابية لاعادة تجديد رئاسته وانه اذا اراد ان يعزز مكانته رجل دولة على المستوى العالمي فلا مناص له من الالتفات الى هذه المشاكل وتقليل التركيز على جوانب السياسة المحلية كما هو حادث الآن.

لكن وبغض النظر عما يمكن ان يقوم به بوش ومقدار النجاح المتوقع منه، فان الحاجة الى التغيير في المنطقة اصبحت ضاغطة. ولفت نظري في الخطاب الذي القاه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد امام افتتاح دورة مجلس الشورى السعودي الاخيرة ورود كلمة الاصلاح في مختلف المواقع نحو 15 مرة، الامر الذي يشير الى ان الحاجة الى الاصلاح والتغيير اصبحت فرض عين لا يحتمل التأجيل. وتزداد الصعوبة في غياب الحلول الواحدة الشاملة والسهلة التي تملك جوابا عن كل شيء وتنطلق من ارضية اجتماعية محددة. والتحدي يكمن في كيفية تحويل هذا الوضع الى نقطة انطلاق ايجابية قادرة على استثارة قوى المجتمع الحية للتفكير والعمل باتجاه المستقبل.