شهاب الدين «أتعس» من أخيه

TT

لا اسوأ من جي غارنر الا بول بريمر فالاول جاء الى العراق بعقلية اول الاوروبيين البيض الذين هبطوا في ارض اميركا العذراء ولم يجدوا امامهم سوى قبائل الهنود الحمر البدائية، والثاني اتضح انه ربما قرأ الكثير عن الفاشية والنازية وعن ظاهرة بول بوت الدموية في كمبوديا لكنه لم يقرأ، قراءة ليست على نمط قراءة روايات ارسين لوبين الشهيرة، تاريخ بلاد ظهر فيها اول دين سماوي ونبتت على ضفاف رافديها واحدة من اهم الحضارات التي عرفها التاريخ.

قبل عودته الى البلاد، التي دخل اطرافها عندما كان جنرالا في الجيش الذي استدرجه صدام حسين استدراجا للمجيء الى هذه المنطقة عندما ارتكب حماقة احتلال الكويت، ربما قرأ جي غارنر «اعمدة الحكمة السبعة» لصاحبها لورنس الذي ادعى امجادا غير صحيحة ونسب الى نفسه بطولات ملفقة والذي عندما لم يجد ما يثير به خيال الاوروبيين عن هذا الشرق الغامض سوى ايراد رواية عن محاولة لاغتصابه قام بها ضباط اتراك كانوا يرابطون بوحداتهم العسكرية خلال الحرب العالمية الاولى في مدينة درعا السورية.

لم يقم الجنرال الاميركي المتقاعد، الذي ارسله الى بلاد الرافدين رامسفيلد ليمثل وجه الولايات المتحدة غير الوضاح في هذه المنطقة، منذ مجيئه الى العراق الا بجولات استعراضية وثبت انه اذا كان يجيد مهنة القتل فإنه لا يجيد مهنة السياسة، فالقتل يعتمد على استخدام اصبع واحدة للضغط على ازرار الموت اما السياسة فإنها تحتاج الى استخدام كل الحواس البشرية.

بقي غارنر منذ استيراده، لادارة شؤون بلاد عرفت القوانين والادارة قبل اكتشاف اميركا بآلاف السنين، يتبختر في شوارع بغداد، التي تأكلها النيران وتزكم انوف ابنائها روائح الموت، كالطاووس وبقي لا يفعل شيئا سوى مواصلة رياضة عناق قادة المعارضة الذين هبط بعضهم على ارض العراق وكأنهم يهبطون على سطح أحد الكواكب البعيدة.

لم يفعل غارنر شيئا لانه لا يعرف عن العراق اي شيء ولأنه جاء بعقلية المكتشف الذي لم يقرأ او يعرف تاريخ وحاضر البلاد التي جاء اليها ولأنه استعان ببعض رموز المعارضة الذين يعرفون مطاعم وفنادق واشنطن ولندن اكثر مما يعرفون واقع بلدهم وما طرأ عليه من مستجدات في نصف القرن الاخير.

بقي غارنر يواجه الحرائق والنهب والسلب في بغداد والمدن العراقية الاخرى بابتسامة بلهاء ولو انه لم يأت الى هذه البلاد بذهنية وعقلية المستعمر، الذي ما ان وصل الى ارض اميركا حتى بدأ بابادة الهنود الحمر، فإنه ما كان لهذا التسيب الامني ان يستمر حتى الآن، فالشعب العراقي لا تمثله عصابات اللصوص التي استباحت شوارع بغداد ولا بعض القادمين من الخارج الذين تتحكم بهم عقدة الضحية تجاه الجزار.

وعلى غرار مجيء جي غارنر جاء بول بريمر فهذا الاخير بادر بمجرد ان وطأت قدماه ارض العراق الى الاعلان عن عزمه على اقتلاع كل منتسبي حزب البعث، المطاح به، من الدوائر والمؤسسات الحكومية واعتبارهم كلهم وبدون استثناء وباء لا بد من التخلص منه.

وبهذا فإن خليفة غارنر باشر عهده، غير الميمون، بوضع نحو ثلاثة ملايين عراقي واكثر في مواجهته وفي مواجهة المرحلة الجديدة، وهنا فنحن اذا عرفنا ان كل واحد من هؤلاء ربما يكون ابن واحدة من عشائر العراق الكبيرة او الصغيرة او على الاقل ابن عائلة مكونة من عشرة اشخاص، فإن بريمر بالقرار الذي اتخذه يكون قد وسع دائرة الاعداء لتصبح بحجم نصف عدد سكان العراق واهله.

هناك قاعدة ذهبية بالنسبة لقيادة الشعوب وحكمها، يبدو ان بريمر لا يعرفها ولم يسمع بها، تقول: «اذا لم تستطع ان تكسب الخصم فعليك ان تسعى لتحييده» ولقد كان الاجدر بموفد الادارة الاميركية الجديد ان يستغل الكشف عن جرائم صدام وموبقاته، التي شملت ايضا اعدادا كبيرة من البعثيين وقادة حزب البعث، لكسب العدد الاكبر من اعضاء هذا الحزب في المرحلة الانتقالية على الاقل وبخاصة اولئك الذين كان قد جرى تأهيلهم في مجال الادارة وفي المجالات العلمية والفنية ثم في المجالات الدبلوماسية خلال عقود طويلة.

قبل ان يأتي بريمر ليخلف جي غارنر، الفاشل الذي لم يثبت اي جدارة ولا تفوق ولا في اي مجال من المجالات، كان عليه ان يقرأ ملف العراق قراءة جيدة وكان عليه ان يعرف ان صدام حسين منذ اقصاء احمد حسن البكر، الذي كان تدمير تمثاله الوحيد قبل ايام الهدية التي قدمتها جيوش الحلفاء للموفد الاميركي الجديد، اتبع سياسة طبقها بالحديد والنار كانت نتيجتها ان جميع ضباط الجيش والامن العام والمخابرات بالطبع اصبحوا اعضاء في حزب البعث وكذلك كل موظفي الدولة الصغار والكبار وكل اعضاء السلك الدبلوماسي وكل اساتذة الجامعات وعمدائها وطلابها.

لأن بريمر لم يقرأ ملف العراق الحديث وربما القديم ايضا قراءة جيدة فإنه لا يعرف ان القبول في الجامعات كلها كان مقتصرا على البعثيين فقط، وان طلبة المدارس الابتدائية كانوا يخضعون لعمليات غسيل ادمغة من الصف الاول الابتدائي والى حين التخرج من الجامعة، وان اي انسان عراقي لم يكن يستطيع مزاولة مهنة رسمية او شبه رسمية ما لم يكن عضوا في حزب البعث الذي حوله صدام حسين وبخاصة بعد عام 1979 الى تنظيم ستاليني حديدي شعاره: «نفذ ولا تناقش».

حتى في انظمة الانقلابات العسكرية فإن النظام الجديد الذي يقتلع سلفه بالقوة والعنف لا يجد بدا من الاستعانة ببعض رموز هذا السلف ولو في المرحلة الانتقالية على الاقل. فاعادة مؤسسات الدولة من نقطة الصفر مكلفة وشبه مستحيلة وهي غير مضمونة النتائج والحاجة الى الخبرات التراكمية وعلى وجه التحديد في الادارات تقتضي التعاون حتى مع الخصوم الاقل عداوة والذين لديهم الاستعداد لمراجعة مواقفهم وتصرفاتهم السابقة.

كل المعارضة الوافدة من الخارج، عدا استثناءات قليلة، لا تستطيع تأمين ادارة فاعلة لدائرة الهجرة والجوازات ولا تستطيع تسيير جامعة من عشرات الجامعات ولا تعبئة الفراغ الهائل في السلك الدبلوماسي، ولذلك فإن بريمر سيكتشف كم ان قراره كان شديد الحماقة عندما اعلن انه سيقتلع اعضاء حزب البعث كلهم بدون استثناء من الادارات العامة، وعندما وضع هؤلاء جميعا هم وعشائرهم واقاربهم، رغم انوفهم، في مواجهة المرحلة الجديدة.

ان الخطيئة التي ارتكبتها الولايات المتحدة هي انها واصلت العمل منذ بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي لاطاحة نظام صدام وتدميره، لكنها لم تعمل لتهيئة البديل لهذا النظام، ولذلك فإن وضعها الآن غدا كوضع من بادر الى فكفكة اجزاء واقسام بندقيته ثم وجد نفسه عاجزا ولا يستطيع اعادة تركيبها.

كل قوى المعارضة الوافدة من الخارج لا تستطيع تسيير الشؤون الادارية حتى في قرية صغيرة من قرى العراق ما لم تستعن بكل او معظم الموظفين السابقين، والمعروف ان هؤلاء كلهم.. كلهم وبدون استثناء كانوا اعضاء في حزب البعث سواء كانت هذه العضوية بالاكراه او عن قناعة.

كان الاعتقاد ان الولايات المتحدة في الفترة التي كانت تعد فيها لاطاحة صدام حسين وهي فترة ليست قصيرة كانت في الوقت نفسه تعد عددا من جنرالات الجيش العراقي، الذين انشقوا في فترة من الفترات والتحقوا بالمعارضة الخارجية، لادارة شؤون البلاد في هذه المرحلة، والمؤكد ان كل واحد من هؤلاء لا يمكن مقارنة لا غارنر ولا بريمر به، فاي منهم يستطيع تشكيل نواة بالامكان البناء فوقها لاقامة النظام المنشود الذي يحلم به الشعب العراقي بعد عهد الظلام والخراب والدمار.

اين الخزرجي وباقي جنرالات الجيش العراقي الذين التحقوا بالمعارضة.. أليس سعد البزاز اعرف ألف مرة من بريمر في كيفية التوجه الى العراقيين بخطاب اعلامي يجمع ولا يفرق ويغلب الوطنية العراقية على كل النزعات المذهبية والطائفية والعرقية..؟

حتى بعد استبدال جي غارنر بالموفد الجديد بول بريمر فإن الفشل الاميركي بات مؤكدا ولا نقاش فيه ولهذا فإن العواقب حتما ستكون وخيمة اذا لم تستطع الولايات المتحدة فهم الواقع العراقي فهما صحيحا واذا هي لم تبادر الى التعامل مع هذا الواقع بغير ذهنية الرجل الاوروبي الابيض الذي يأتي الى بلاد لاستعمارها وهو لا يعرف عن تاريخها وحاضرها اي شيء.