الوصفات الجاهزة

TT

العالم يعيش مرحلة بالغة الاضطراب، فقد عدنا مرة اخرى الى العصور الامبراطورية التي كان العالم قد تخلص منها لأسباب موضوعية، أعني ليس بدوافع اخلاقية او عقلانية، بل بسبب التحولات التي حدثت في المجتمعات الانسانية خصوصا في العصور الحديثة ابتداء من نشوء الدول القومية في اوربا الى الانقلاب الصناعي والتطورات العلمية والتكنولوجية، فالواقع ان المجتمعات البشرية لا تنتقل من مرحلة اجتماعية الى مرحلة اخرى لأسباب متعلقة بفكرة العدل او الحرية او توقا الى الخير، بل لأسباب اخرى كثيرة، مثل رغبة التوسع على حساب الآخرين ومثل توفر ظروف تتزايد فيها القوة المادية لهذا المجتمع او ذاك او مثل تخلخل مجتمع ما وتحلله وعدم قدرته على مواجهة الاطماع التي تأتيه من هذا الجانب او ذاك. العقل والاخلاق لا تتحكم في المسيرة البشرية حتى اليوم.

على ان امور الحياة صارت اكثر تعقيدا من اي وقت مضى، فالحرب على العراق دفعتها اهداف توسعية فكرت فيها مجموعة من غلاة الصقور في المجتمع الامريكي بالصدفة كانت تضم اكبر عدد من اليهود الامريكيين المتعصبين للدولة الاسرائيلية والمؤازرين لهيمنتها على منطقة الشرق الاوسط، ولكنها في نفس الوقت أدت الى اسقاط نظام فظ سام العراقيين سياط عذاب لأكثر من ثلاثة عقود. على أن هذا التيار العدواني لا يهدد العالم العربي وحده او العالم الاسلامي بل العالم كله بما فيه القوى الكبرى وفي مقدمتها دول الاتحاد الاوربي او بعضها على الاقل. ثم ما هي حقيقة مشكلة عالمنا العربي هل هي زرع الدولة الاسرائيلية بالغصب في الارض الفلسطينية واطماع الدولة الاسرائيلية في العالم العربى بشكل عام؟ هل هي الاطماع العالمية او الاستعمارية في مصادر الثروة العربية والبترول بصفة خاصة؟ هل هو الصراع القديم بين الاسلام والمسيحية؟ هل هو تدهور الاوضاع في البلاد العربية والافتقار الى نظم عصرية ديمقراطية يتم فيها تداول السلطة بين القوى السياسية الموجودة في المجتمع عن طريق الانتخاب؟ هل هي في النزاعات الايديولوجية المتعددة الاتجاهات والرؤى؟ هل هي في الفقر في الموارد ام هي في التخلف العلمي والتكنولوجي؟ ام هي في الاحساس الجمعي الذي يغلب عليه اليأس والاحباط نتيجة معارك خاسرة طوال القرون الخمسة الماضية؟

ولنأخذ الارهاب مثلا الذي اصبح ينسب الى الاسلام مع ان هناك اشكالا عديدة من العنف السياسي في اكثر من موقع سواء في القارة الاوربية او الاسيوية او الامريكية تنسب الى الاختلافات الدينية او العرقية. فهل الناس يقتلون او ينتحرون حسب عقيدة معينة هي الاسلام؟ وماذا عن العمليات الانتحارية الكثيرة التي عرفها التاريخ الحديث. انظر الى عمليات الهاري كارى التى مارسها جنود وطيارون يابانيون في الحرب العالمية الثانية.

وعلى الرغم من كل ذلك فان العالم العربي، وبصرف النظر عن الظروف المشابهة في هذا الركن من العالم او ذاك عليه ان يعيد النظر في احواله. فالشباب المسلم المتطرف الذي يحول نفسه الى قنبلة بشرية يقتل المسلمين ايضا. وعندما ساد الفكر المتطرف المسنود الى الدين صار الكتاب يتعرضون للقتل والاعتداء ايضا كما حدث للكاتب فرج فوده وللروائي الكبير نجيب محفوظ في القاهرة ولغيرهما من الكتاب والفنانين العرب لسبب او لآخر.

ثم ما هي الاسباب النفسية او العقلية التي تدفع شابا في مقتبل العمر ان يقتل نفسه ليقتل اعداءه. هل هي اليأس والاحباط الذي تعيش فيه أغلب المجتمعات العربية والتي صارت تفتقر الى حب الحياة والرغبة في الاستمتاع بها؟ هل التدين المفرط نوع من الهروب الناتج عن الشعور بالاستلاب في مجتمعاتنا الديكتاتورية التى يهمش فيها الافراد فلا يشاركون في أي فعل او قرار بل ولا يحصلون على اي حقوق فيهربون الى العالم الآخر؟ واذا عبنا على التثقيف الديني الذى يضع نصب عينيه ان تكون الحياة الدنيا مجرد جسر عابر الى الحياة الآخرة الواعدة بالحرية والكرامة والعدل، فهل عجزت عندنا فقط قوة الحياة الخارقة على الجسم والعقل البشريين فبدلا من ان ننشد المتعة والسعادة بجوانبها المادية والروحية ننشد الموت ونزهد في الحياة بل نزدريها ونتعالى على كل نداءاتها. ولماذا ينجح هذا النوع من التثقيف الديني في خنق قوى الحياة لدى الشباب، حيث فتوة الحياة في ذروتها وتدفع الكيان البشري للانغماس فيها واجتلاء حلاوتها. هل هو التثقيف؟ ام هو حالة الاستلاب وروافدها من الكراهية والرغبة في التدميروالتمرد؟ ام هما معا. ثم ما الذي جعل مثل هذا التثقيف ينتشر ويزدهر ويؤدي الى شبه موقف عام من الحياة، بحيث يعاد باستمرار انتاج الزهد والتمرد والتعالي على الحياة ومتعها والانغماس في العبادة بما في ذلك الاستشهاد باعتباره جزءا من الواجبات الدينية التي ترفع الانسان الى أعلى عليين.

واذا كان الامر كذلك فكيف تخرج المجتمعات العربية من هذه الحالة التي حولت العبادة الحقيقية الى هلوسة ودروشة وخرافة وتعصب جنوني في الكثير من الاحوال؟ كيف يتفهم الشاب المسلم الحديث النبوي الشريف: اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وكيف يصبح فعل الخير جميلا وممتعا وكيف تكون الحياة هبة عظمى وفرصة بالغة الندرة لممارسة وجود حيوي ضد العدم والهلامية والموت.

العجيب ان المجتمعات العربية وجدت نفسها في مأزق لا مثيل له. فاغتصاب الارض الفلسطينية جرح الكرامة العربية، وان بدا هذا التعبير غريبا على بعض الغربيين، ولكنه على الارجح حقيقة بدليل ان الحكومات العربية حين اتخذت القضية الفلسطينية عذرا لتغييب الديمقراطية والعدوان على الحريات ونهب الحقوق لم يعترضها احد املا في ان يكون هذا الكبح وسيلة لتجميع القوى لتحرير الارض الفلسطينية. وكان هذا ما كانت تقول به الدعايات العربية. وكان هذا ما يستند اليه حاكم بالغ الضراوة مثل صدام حسين.

ولكن مجتمعا ديكتاتوريا قامعا لشعبه مقتلعا من افراده الكرامة والنخوة مستلبا ثروتهم ومجوعهم الى حد الفقر المدقع لا يستطيع ان ينجح في اي مواجهة مع اي عدو، وربما ادرك هذا النوع من السلطات ان القضية الفلسطينية ذريعة رائعة يستر بها كل نوازع التسلط واستلاب حقوق الآخرين، فركز حديثه وخطابه السياسي حول هذه القضية فقط.

اظن ان بعض المثقفين المصريين بعد ان تولى السادات السلطة حسب الدستور المصري العجيب، وبناء على ترشيح من مجلس ليس منتخبا تماما ثم بناء على استفتاء، فكروا ان يرسلوا خطابا الى الرئيس الذي كان يتهرب من مواجهة اسرائيل لأسباب غامضة يعلنها بين وقت وآخر، بينما يركز همه على السياسة الخارجية، والادعاء بالاستعداد للحرب يترك المشاكل الاجتماعية على حالها، سواء فى البنية التحتية او في الاصلاح الاقتصادي او السياسي. وكانت البطالة منتشرة والتعليم متخلفا والاقتصاد متدهورا والحقوق السياسية معدومة تماما، وطالبوه في رسالتهم هذه بأن يلتفت الى الاصلاح الداخلي ما دام ان المواجهة مع اسرائيل غير ممكنة للاسباب التي يذكرها او التي لا يذكرها. وقد غضب السادات غضبا شديدا وكان يعتقد - على اية حال ـ ان تحرير سيناء بعد هزيمة 1967 لا يمكن ان يتحقق الا بمساعدة الولايات المتحدة، ولكن هنري كيسنجر الذي كان وزيرا للخارجية الامريكية اعتذر له عن التدخل الامريكي لاجلاء الاسرائيليين الا اذا كان هناك وضع ساخن يسمح بالتدخل الامريكي. وكان عليه ان يحرك الاوضاع على ارض سيناء فقامت حرب 1973 وتوقفت عند عدة كيلومترات بعد قناة السويس حتى يخلق الفرصة التي يطلبها كيسنجر للتدخل. ولكن الاسرائيليين بدعم امريكي اخترقوا القناة وحاصروا الجيش الثالث وطلب السادات وقف اطلاق النار معتمدا في نفس الوقت على المواجهات الدولية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. والى اليوم لم يتم الالتفات الى الاوضاع الداخلية بشكل حازم. وما زال الاصلاح السياسي مؤجلا وما زالت مصر تحكم بحزب واحد واعلام واحد وبقوانين الطوارىء. وما زالت القضية الفلسطينية هي محور كل التفكير وانفعالات الغضب واليأس والاحباط.

ولعل العالم العربي بعد الحرب على العراق يدرك أن القضية الفلسطينية لا ينبغي ان تصبح حجة الانظمة في تأجيل الاصلاح السياسي والاقتصادي وفي مقدمة ذلك جميعا توزيع الثروة على أسس عادلة وتنمية البلاد على أسس اقتصادية، وفتح الطرق امام الافكار المتعددة والمساهمات الشعبية في مجتمع يعتمد على مؤسساته المدنية وعلى الحقوق المتساوية. ومهما تكن الظروف او الحجج فانه لا شيء يتقدم على الاصلاح السياسي وحريات الانسان، بل ان اصعب القضايا السياسية خارجية وداخلية تصبح حينئذ قابلة للحل.