صافيناز كاظم... وضوح الرؤية في ضباب الثقافة العربية

TT

لا يمكن أن يدافع الإنسان والمثقف بشكل خاص عن الحرب، أية حرب في أي زمان ومكان، ولذلك كاد دفاع المثقفين العرب عن العراق في «عربة السلام ضد الحرب» أن يبدو منطقيا وإنسانيا وأخلاقيا، ولكن الكثير من المثقفين العرب المدافعين عن العراق في عربة السلام كانوا يخفون في جيوبهم تمثالا صغيرا لطاغية كبير، كانوا يريدون الانتصار له في عربة تحمل راية بيضاء عنوانها الشعب العراقي. من هنا كان صوت المثقفين العراقيين الذين عاشوا في المهجر قسرا، أو حتى خيارا من أجل الحرية، كان صوتهم مغيبّا خافتا في مواجهة ضجيج المثقفين العرب ووسائل الإعلام المتاحة أمامهم!

هذه الحالة التي مثلها عدد غير قليل من المثقفين العرب، تحدوهم المنفعة الذاتية، خلقت حالة ضبابية حالت دون تشخيص حقيقة الموقف السياسي والثقافي العراقي، حتى بات من الصعب حقا النفاذ الى العراق وكشف الحقيقة الموضوعية أمام العالم، لأن أولئك المثقفين ذوي المواقف الانتهازية والنفعية أحالوا جحيم الحياة التي صنعها الدكتاتور ومن معه الى حالة تشبه الواقع العربي العام بينما هي حالة خاصة دامية موغلة في الوحشية والجريمة ولا تشبه حتى بعض الدكتاتوريات العربية التي كلما جاء اسم العراق قيل انه يشبه هذا البلد أو ذاك وكلنا في الهم سواسية... وحقيقة الأمر هي أن حالة العراق لا شبيه لها في الوطن العربي أو في الشرق العربي إذ يغيب فيها القانون مهما كان شكل ذلك القانون ويتحول الى رغبة شخص واحد اسمه صدام حسين، الذي اقل ما صنع منه المثقف الانتهازي العربي أن جعله شبيها بغيره من قادة العرب، وفي ذلك حيف كبير على العرب وعلينا نحن العراقيين بالذات.

ومعروف أن المثقفين العراقيين الذي هجروا العراق قسرا يكادون أن يشكلوا العمود الفقري للثقافة العراقية بسبب حجم الثقافة المهاجرة والمهجرة والمستوى الإبداعي لمنتجيها. وهؤلاء لم يقولوا كلمتهم بعد .. وهذا خزين متأمل واع. وقليلون منهم هم الذين استعجلوا موقف الانتماء والتصويت قبل أن تبدأ الانتخابات! وعندما يحين موعد الكلمة ستبرق كلمتهم في سماء ظلمة الماضي التي تركها أكثر أنظمة التاريخ فسادا والتي لا تزال تلقي بثقلها على وجدان العراق. هؤلاء لهم صوت.. وأي صوت..

مثقفو العراق هؤلاء أدماهم موقف نظرائهم مثقفي الوطن العربي حتى كادت كلمة العروبة تنفد من قاموس لغتهم لتحل محلها كلمة (العروقة).

تأتي كلمتك أيتها الكاتبة العزيزة صافيناز كاظم لتعيد إلى العراقي شيئا من عروبته التي سلخها منه وعنه زملاء درب وكلمة وشعر وحكاية ورواية ولوحة وفيلم سينمائي ومسرحية.

لقد قرأت كلمتك (إنلاصت) فشعرت انك كتبتها بروح دافئة حنونة مشخصّةً، لا الاشخاص.. ولكن الاتجاه الذي نراه يرصد العراق ويدفع به نحو الهاوية أن يأخذ بيده للصعود وتجاوز المحنة الحقيقية التي خلفها طاغية قال منذ أول تسلمه سلطة البلاد (من يريد أن يتسلم العراق بعدي فإنه سيتسلمه أرضا بدون شعب) وهو عندما قال كلمته هذه إنما زرعها في أرض أولئك الكتاب والإعلاميين.. زرعها بعملة صعبة بدأت تعطي ثمارها الحرام .

لقد عرضت شاشات التلفزة الفضائية العربية اخيرا مشاهد مرعبة تهز الضمائر حتى الميتة منها، مشاهد إعدام الشباب بتفجيرهم بالديناميت وهم أحياء داخل حفرة (هي قبورهم) مرت المشاهد خبرا دونما تعليق أو رّفة طرف.. و في نفس اليوم عرضوا مشهدا لغرفة في إذاعة بغداد التي قصفت في الحرب وتعرضت للسرقة، مرّت الكاميرا على الخراب الذي أصاب الأجهزة والآلات والبناية فمزجت المشاهد بموسيقى حزينة مع حركة كاميرا بطيئة تثير الشفقة.. نعم.. إن مشهد إذاعة مهشمة (يكسر الخاطر) ولكن ماذا يمكن أن يكسر مشهد ثلاثة شباب يتم تفجيرهم داخل حفرة هي قبرهم؟! هؤلاء من إعلاميين وكتاب الصحافة والخواطر والرأي (الحر) هم الذين يفرزون الشعب العراقي إلى مسلم سني وشيعي وإلى طوائف وأقليات صابئية وآشورية وكلدانية وإلى فرز قومي بين العرب والأكراد والتركمان ويدفعون المجتمع والمجتمع الدولي إلى أن ينصب خيمة الحكم ويجلس في ظلالها ممثلو هذه التقسيمات، فيصبح الحكم قائما لا على المعرفة والعدالة والقانون ولكن على حكم الطوائف والفئات وهو أمر مرفوض عراقيا .. والمثقف العراقي الحقيقي الذي يشكل المثل في وجدان الناس لم يقل كلمته بعد.. هو يريد أولا محكمة عادلة لمجرمي الشعب ومجرمي الثقافة والتاريخ والحضارة ومجرمي المستقبل المذبوح.. يريد المثقفون العراقيون أن يعرفوا حقيقة الموقف قبل أن يقولوا كلمتهم الفصل وهم يضمون صوتهم إلى صوتك، بل وعرفوا وكانوا يعرفون نظرتك الوفية لعراق أنت منه وهو منك يا جارتي العزيزة.

لقد أصابنا حيف كبير من المثقف العربي عموما ومن فضائيات العرب بشكل واضح ومؤلم. فالمثقف العربي عمل على تجميل صورة القاتل وتشويه الضحية وكرس المثقف العربي مفاهيم البطل القومي المزيف في تقسيم الشعب العراقي وإلغاء صفة المواطنة عنه ، وكانوا كتبة مأجورين لحسابه بدلا من أن يكونوا مبدعين مرموقين.. وما أن تهاوى التمثال الخاوي حتى بدأت النغمة تتحول إلى نغمة ثانية تدين ممارسات الشعب العراقي الجريح حتى وصل الأمر بأحد الكتاب المرموقين حقا بأن يطلق صفة «الرعاع» على الناس الطيبين الذين أسقطوا تمثال الطاغية في ساحة الفردوس!!. أما الفضائيات العربية فإنها عبر أخطر وسيلة مؤثرة على الواقع الاجتماعي، كرست قدرتها ووسائل تعبيرها غير المحدودة لتشويه سمعة شعبنا، ولم تكن لدينا وسيلة إعلامية نقول من خلالها كلمتنا في ما يحصل.. في الأقل للدفاع عن أنفسنا، ولا نزال نتلقى الشتائم التي تمس شرف العراق وشرف العراقي في أن يعيش حرا في بلده لا يخطر في باله أن يكون شيعيا أم صابئيا كرديا أم عربيا.. هو مواطن حر وحسب.. هذه الحرية لا يعرفها المأجور ولا يريدها لغيره لأنه لا يريدها لنفسه .. لقد قبضوا ونحن ندفع الثمن.

في خضم هذا المعترك الذي (إنلاصت) فيه المفاهيم يأتي صوتك (الصافي) الذي تناقلناه عبر الهواتف، ونحن متأكدون أنه سيصبح صوتين ثم ثلاثة.. وسيكبر.. وتختفي أضداد الحقيقة.. بالضرورة.

* كاتبة عراقية