أحلام الطوب

TT

العشاء، في دبي، مع الوزير الفلسطيني ياسر عبد ربه، القادم من طوكيو للقاء ابنه، واكمال الرحلة الى عمان، ثم الطريق الى رام الله، معظم الحديث ذكريات. المستقبل غامض، والحاضر صعب، لذلك مر المساء في تذكر الاشياء، خصوصاً تلك التي تقع تحت اكبر عنوان في التاريخ العربي المعاصر: المضحك المبكي، او بالاحرى، العكس.

يتذكر ياسر عبد ربه لقاء مع الرئيس العراقي الضائع صدام حسين عشية غزو الكويت. بسط الزعيم ساعديه فوق حافتي المقعد وتطلع الى ابو عمار ثم بدأ مطالعته السياسية: تأمل ايها الاخ العزيز حال العالم من حولنا اليوم. لقد انهار الاتحاد السوفياتي وتهاوى. وميخائيل غورباتشوف عاجز عن ان يقف بالعملاق الرابض من جديد. ومن طبيعة هذا العالم انه لا يقبل نظرية الفراغ. اذن، لا بد من قوة اخرى تقف في وجه الاحادية الاميركية. تراها من تكون؟ فلنأخذ الصين، انها قوة بشرية هائلة، لكن امامها زمناً طويلاً. والهند دولة جديدة لكن يغلب عليها الفقر. واوروبا خاضعة تماما للقرار الاميركي. فمن يبقى؟ يبقى العالم العربي برجاله وثرواته وشعبه. وفي قلب هذا العالم العربي من يقف؟ يقف العراق. هذا هو الدور الذي يجب ان نلعبه!

وساد صمت طويل قطعه السياسي الفلسطيني جمال الصوراني: يا سيادة الرئيس، الطموح امر مشروع. لقد حلم جمال عبد الناصر هذا الحلم من قبلك، فماذا حدث؟ الى اين ذهب بنا عبد الناصر؟ الى اليمن و67! اليس من الافضل ان تكون احلامنا ضمن قدراتنا؟ اعترض صدام حسين شارحاً ومبرراً: عبد الناصر لم يكن يملك المال ولم يكن يملك الحزب. ولم يعترض احد.

قبل ايام تناولت فنجاناً من القهوة مع وزير خارجية عربي من مؤسسي الديبلوماسية الهادئة في منطقة البحيرات المضطربة والخلجان المهددة. وكان الحديث طبعاً العراق. وقال الرجل مشدوهاً او مدهوشاً، انه عندما رأى آلات التصوير الاولى تدخل البصرة ظن ان في الامر خطأ او تزويرا: «لقد بدت البيوت الطينية وكأنها في افريقيا». وقلت له انني كتبت هنا الملاحظة نفسها في الايام الاولى لسقوط البصرة. وهذا الصباح قرأت مقالة توماس فريدمان عن جولة في انحاء العراق فاذا به مذهول من كثرة بيوت الطوب ومن افتقار المدن الى المجاري والبيوت الى الخدمات الصحية! هل تصدقون مشاهد الحفاة التي نراها عفواً على التلفزيونات؟

الم تكن هذه صورة الاتحاد السوفياتي التي حاول صدام حسين ان ينسخها؟ دولة تضرب في الفضاء لكنها لا تستطيع انتاج القمح؟ وبلد يريد ان يحكم العالم وهو غير قادر على اطعام شعبه؟ لقد حاول صدام حسين ان يبني «المدفع العملاق» وان يكون رابع دولة عسكرية في العالم، ثم حلم بأن يكون هو الدولة الكبرى الاخرى في صراع الاقطاب، ولذلك «اسرج لها الخيل» وبدأ الرحلة الى الكويت في الطريق الى السعودية والامارات. الا انه نسي امراً اساسياً: من اجل ان يأخذ الشعب العراقي معه في هذه الرحلة، يجب ان يحبه العراقيون. يجب الا تقطع انوفهم وآذانهم وايديهم. وان تكون لهم بيوت من الحجر والاسمنت، وليس بيوتاً مثل بابل وزمن بابل لم تعرف الاسمنت بعد.

ترى اين ذهبت اموال العراق؟ لقد كان صدام حسين يقطع ايدي او رؤوس اي متهم بالرشوة في عقد تجاري صغير. فالى من ذهبت الاموال اذن، عدا تلك الملايين التي عثر عليها تائهة في شاحنات اللوري ذات العجلات الست. من كل جانب طبعا.

ينوي الوزير عبد ربه ان يكتب مذكراته عن 35 عاما من العمل السياسي. وان يدون مشاهداته. ولست ادري كم منها يقع تحت باب المضحك وكم تحت باب المبكي. وفي اي حال اعتذر عن انني اقتطعت منها سلفا، خبر تلك الجلسة التي قال صدام حسين خلالها، في عملية بسيطة دقيقة، انه المؤهل الوحيد للحلول مكان الاتحاد السوفياتي. دمتم.