الثوابت والمتغيرات.. دعوة متواصلة للقاءات فكرية

TT

كنت أعتزم تخصيص مقال هذا الأسبوع للتغيير الوزاري في الجزائر، الذي يرتبط بوضعية معقدة أعرف أن قلة في وطننا العربي من يدرك كل معطياتها، لكن رد السيد «صلاح الساير» على دعوتي لوحدة المثقفين أنقذني من مجازفة التعامل مع «النيتروغليسيرين»، وفضلت تسليط الضوء على الفكر المرضي الذي نعرفه بعد سنوات الإحباط التي عشناها جميعا، وأصابت بعضنا بما يشبه الانهيار العصبي، وهو في تصوري أمر طبيعي، مع ملاحظة أن هناك من استسلم لمنطق الإحباط بغض النظر عن عمر ربيعي قليل الأعباء، وهناك من تحداه بعناد يهزأ بتراكم السنين وجسامة الأحداث ومرارة المعاناة.

وأتذكر أن مسؤولا جزائريا ساميا كان يرأس يوما تجمعا حزبيا ضخما للشباب، عندما راحت مجموعة يسارية تحاول التشويش عليه، وتناول بعض أفرادها الكلمة ليطالبوا «الحرس القديم» بترك المجال للشباب.. والاتكال على الله.

ولعلها فرصة لكي أوضح خلفية تعبير «الحرس القديم» لبعض من يستعملونه بدون فهم لمعناه، ولمجرد أنهم قرأوه في بعض الأدبيات السياسية، ولا أقصد الكاتب.

فالتعبير هو مقابل عكسي لتعبير «الطليعة» Avant garde، والتي كانت تعني في البداية مجموعة استطلاعية تتقدم صفوف الجيش، ثم استعملت في إطار العمل الثوري لتعبر عن جماعة تبرز من تنظيم معين لكي تقود التغيير الثوري.

وهذا يعني أن من يبقون في المؤخرة هم « L"arrieres gardes»، أي بقية الجيش بتشكيلاته المختلفة، أو مجموعة حراسة المؤخرة وهي مهمة أكثر خطورة، والمهم أن البعض أعطى لذلك معنى قدحيا لإبراز ثورية الطلائع وأهمية تضحياتها.

وترك المسؤول الساخطين يصرخون إلى أن تعبوا وملت منهم القاعة، ثم قال لهم بهدوء : «..أنتم تريدون السلطة ؟، حسنا.. السلطة لا تهدى ولا تستجدى، وهذه السلطة انتزعناها من المستعمر بثمن باهظ، وستكون لكم عندما تكونون على استعداد لدفع ثمن مماثل للثمن الذي دفعناه، أي بالنضال لا بالهتافات، وبالعمل لا بالصراخ».

وليس في نيتي أن أجادل من رَفَض الحوار وطالبنا بالاندحار، ولعله يقصد.. الانتحار، مبرزا بذلك خلفيته الفكرية، وذاك حقه، ومؤكدا تناقضه مع مفهومي لتكامل الأجيال وتواصلها، وهذا حقي، لكنني، ومع رفضي لحديثه باسم الجماعة بدون تفويض، فالمفرد يكفيه وزيادة، أتوقف عند بعض ادعاءاته، ومن بينها زعمه بأنني أسعى إلى «تكريس ثقافة المؤامرة».

وأنا ممن يُدينون استعمال حكاية المؤامرة كمشجب لتعليق الأخطاء، ولكنني أدين بنفس القوة تجاهل وجود المؤامرة، التي عرفها التاريخ منذ وسوس الشيطان لآدم وحواء، ومرورا بمأساة قابيل وهابيل، ووصولا إلى الزمن الذي اختلت معطياته، منذ مؤتمر بال، ومرورا باتفاقيات سايكس بيكو، ثم يالطا وبوتسدام، ووصولا إلى كامب دافيد.

ولأنني عشت تداعيات الوضعية التي يطالب بها الكاتب الآخر فقد استشهدت بما قاله صديق عجوز! هو الأستاذ كريم بقرادوني، الذي أعرف أنه أكثر شبابا، فكريا وحركيا، من بعض الذين ولدوا بعده بعقود، ولا يملكون بعض بعض خبرته ونضاله.

لقد خرجت بلادي من استعمار استيطاني رهيب بفضل ثورة تحريرية ظافرة هي فخر لكم بقدر ما هي فخر لنا، وراحت تحاول استثمار ثروتها الرئيسة، وهي النفط، للحاق بركب الحضارة، وانطلقت في مجال البناء والتعمير على غرار ما تم في بلدان أخرى، وعرفت طفرة هامة كتلك التي عرفتها دول الخليج والعراق وغيرها بفضل النفط.

وللأمانة، ورغم أنف من يكابر في الحق، فإن نفط الكويت جعلها بؤرة قومية نشطة وعاصمة دائمة للثقافة العربية ولكنه جعلها أيضا محط أطماع ومؤامرات، تماما كما كان الأمر بالنسبة للسعودية أو الجزائر أو العراق أو إيران أو ليبيا.

وتاريخ «الأوبيك» يسجل الجهود التي بذلتها الجزائر مع بعض شقيقاتها ليظل النفط جارية نملكها لا «شجرةَ دُرٍّ» تتحكم فينا، غير أن هناك من راح يساوم ويتلاعب إلى أن وصلنا اليوم إلى وضعية لا يمكن أن نزعم فيها أننا نتحكم في نفطنا تحكما كاملا، أسعارا وتسويقا وتخزينا وعائدات، بل إن هناك من دفع الثمن غاليا لمجرد أنه فكر في استبدال «اليورو» المزدهر بالدولار المنهار، ويكفي أن نقرأ تعليقات الصحف الغربية وهي تسخر ممن تحدث عن استعمال سلاح النفط، الذي قام بنضال رائع في منتصف السبعينيات، ثم ضاع دوره إلى الأبد، والتفاصيل معروفة، ولم يكن الوطنيون وراء إجهاض سلاح النفط ولكنه سوء التدبير وسفه التبذير، ورغم أني لم أتحدث في المطلق، فلا أعتقد أني أجرمت وأنا أقول بأن النفط تحول، سياسيا، إلى طبل أجوف، وبأنه أصبح، اجتماعيا، وبالا على أصحابه، الذين أصبحوا محل أطماع الذئاب والضباع والقطط الجائعة على حد سواء.

ورغم كل شيء واصلنا محاولة بناء المجتمع الذي يستمد قوته من تاريخه ومن انتمائه ومن تحكمه في إرادته الوطنية، وتحملنا مسؤولياتنا القومية على الساحة العربية والإسلامية، بما جعل من المغرب العربي عمقا استراتيجيا للمشرق العربي.

وفي مرحلة مشؤومة طلع علينا من رفعوا شعار هدم الثوابت الوطنية، وقال بعضهم، في إطار الحديث عن الدين الإسلامي واللغة العربية ومشروع المجتمع الوطني، بأنها..«الثوابت التي اغتالت الجزائر»، وأضاف أحد الأصدقاء كلمة فسرت كل الخلفيات عندما أضاف إلى كلمة.. الجزائر.. صفة «الفرنسية»، ولقد كانت الثوابت الراسخة التي تمسك بها الرجال هي التي أسقطت الجزائر الفرنسية وأقامت الجزائر العربية المسلمة.

وانطلقت عملية تخريب الأسس التي قامت عليها نهضة البلاد، وأكد تطور الأحداث بأن الأيدي الخارجية تتحمل مسؤولية أساسية في إشعال نار الفتنة التي اجتازتها الجزائر في التسعينيات، ومن بينها أيد عربية ومسلمة، لم يحن بعد أوان فضحها لأن هناك أسبقيات أخرى على الساحة.

وأتساءل : من هي «الدول الحية التي لم تتمكن من النهوض من كبوتها إلا بعد أن تخلت عن ثوابتها التي مرغتها في أوحال التعثر والهزيمة»، كما قال الكاتب، حيث لم أقرأ في مقاله الطويل إشارة صريحة واضحة لتلك الثوابت، أو لمرجع تاريخ إنساني يلهم ذلك الحكم الهمايوني، الذي يستدعي تعبير يوسف وهبي الخالد.. «.. يا للهول».

كل ما قرأته ذكرني ثانية بالمرحوم مساعدية، عندما يعترف الكاتب بأن الثوابت هي تلك: «التي يدافع عنها بقرادوني وعميمور و(المرتد) إدوارد سعيد، وآخرون لا يزالون يسيطرون على مقدرات العقل العربي، الذي لن يتحرر من إساره وينطلق في فضاء الحرية ما لم تتخلص الثقافة العربية من حرسها (المزمن) القديم» (والأقواس هنا من عنده).

ثم يوضح بأن «الثوابت التي يتمسك بها عجائز الثقافة العربية ليست كمثل ثوابت الثقافات الأخرى، بل هي أوهام افتراضية كرست أوهام العروبة السياسية في العقول»، ولكنه لا يشرح لنا ما هي ثوابت الثقافات الأخرى المشار لها، لكي نتعلم منها شيئا نخرج به من أوحالنا؟ ولا ينقض علينا لينتزع منا سيطرتنا المزعومة، بحيث كدت أحس أنها دعوة أخرى لتومي فرانكس ليتولى الأمر بنفسه، وهو ما يوحي به قول الكاتب «إن المطلوب (المقدس) هدم نبيل وخراب يفضي إلى معمار متين وتأسيس ثقافة جديدة يؤمن بناتها بالتنازل عن (الثوابت) وتجريدها من الحصانة» (والأقواس دائما من عنده).

المطلوب إذن هو غزو جديد كغزو العراق لن يطال بوركينا فاسو طبعا.

والكاتب لا يقول لنا شيئا عن الثوابت الجيدة، ويطالبنا بمعرفة الشيء من نقيضه، أي من صورة «الثقافة العربية الوحدوية الفاشيستية»، كما يصفها والتي «يبحث فرسانها عن النفط والماء والكلأ»، كمثل ما جرى عند غزو الكويت في «غزوة أم المعارك» لصاحبها صدام حسين، ثم يردف «إنها ثقافة تسلطية، شريعتها الفكرية مسطورة في غاب موحشة، ثقافة افتراسية، تنشر مقولات مضللة مثل مقولة «نفط العرب للعرب» التي تقول إن النفط أصبح وبالا على أصحابه ولكنها لا تفسر لماذا يكون نفط العرب للعرب»، ثم يقول.. «لماذا لا يكون الفوسفات والنبيذ اللذان تنتجهما الجزائر» للعرب؟

وأقول له.. «تفضل..هما لك، ونضيف «تمور» الجزائر وهي أيضا تمور للعرب»، وأكتفي بسؤاله عن الذين تزعجهم حقيقة أن يكون بترول العرب للعرب..؟

ولن أطيل على القارئ وأكتفي بأن أرجوه قراءة رد السيار مرة ثانية وثالثة، ليستكمل ما لم أشر إليه في حديثي هذا، عفة واحتراما للمنبر وللقارئ.

وأذكر بأن دعوتي للوحدة الفكرية مقصورة على الوطنيين الذين يؤمنون بدور المثقف في حماية ثوابت الوطن وثروته المادية والبشرية، ولست معنيا بغير هؤلاء.

وعلى الذين تجرعوا أقداحا مسمومة أن يتذكروا اليد التي أعطتهم إياها، فهم لم يأخذوا منا أو عنا شيئا.

[email protected]