بريطانيا عثرة في سبيل نفسها؟

TT

«لا تقف في سبيلهم عثرة وهم عثرة في كل سبيل» كلمات تتناقلها الأجيال في وصف نابوليون بونابارت للانجليز، قد نوافق عليها او نرفضها لكننا نتجاهلها على مسؤوليتنا الخاصة وقد نرمي «الامبراطورية الهرمة» بشتى التهم، اذا كان رشق التهم «جائزة ترضية» تخفف شقاء المبتلي بما هو ادهى وأخطر، الا ان هناك حقيقة ثابتة هي ان هذه الدولة التي هيمنت لحقبة طويلة من تاريخ البشرية على نصف كوكبنا أستاذة في فن السياسة، وان كانت استاذيتها هنا دون استاذيتها في ربط السياسة بالاقتصاد.

أكيد سيقفز البعض مستنكرا مثل هذا القول اللامسؤول عن الأمة التي انجبت للعالم اهم رائدين من رواد الاقتصاد السياسي آدام سميث وجون ماينارد كينز ولكن واقع الحال، ومهما كانت الحجج، لا بد من الاعتراف بان بريطانيا التي تمارس فن السياسة بسهولة شرب الماء ما زالت تتخبط في مستنقع تقرير ما اذا كانت ستلحق بركب العملة الأوروبية الموحدة «اليورو» أم ستمضي قدما في لعبة المشاغبة والتعطيل.

أزعم، وانا آخر من يدّعي طول الباع في علم الاقتصاد، بأن وراء التخبط اعتبارات سياسية لا اقتصادية بعكس ما يقال ويشاع ويملأ الأسماع وحتما بعكس ما يتحجج به وزير الخزانة غوردون براون، وهو بالمناسبة يحمل درجة دكتوراه في التاريخ لا الاقتصاد.

واعتقد ان المشكلة «الأوروبية» التي يواجهها حزب العمال الحاكم في بريطانيا تحت قيادته «البراغماتية» الحالية تختلف جوهريا عن المشكلة التي واجهها من قبل حزب المحافظين، ومن ثم أدى الشرخ بين جناحي انصار التكامل الأوروبي وانصار التقوقع الانعزالي الى شق الحزب، وبالتالي خسارته السلطة ومكمن الاختلاف ان الخلاف داخل حزب المحافظين بين الجناحين الاوروبي والتقوقعي أخذ ابعادا ايديولوجية عميقة، وفتت الكتلة المكونة تاريخيا للحزب، وقوامها الرأسمالية الكبيرة ورأسمالية الحرفيين واصحاب الدكاكين والورش الصغار.

ففي حين أيد المرتبطون مصلحيا وآيديولوجيا بالرأسمالية الكبيرة التي لا تعترف بالحدود القومية الانفتاح على اوروبا والتقارب معها، جفل الحرفيون و«الدكنجية» الصغار رافضين الانزلاق نحو عملة وتشريعات أكبر منهم، واستقووا ليس فقط بعقلية «أهل الجزيرة» المنفصلة تاريخيا عن جيرانها في «القارة»، بل بالعلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، التي يؤمنون بأنها لن ترتاح سياسيا واقتصاديا على المدى الطويل بعملة واحدة قوية لكيان أوروبي قوي.

اما بما يخص حزب العمال، فتجدر الاشارة الى نقطتين هامتين: الأولى ان معظم مناوئي التقارب مع اوروبا لأسباب ايديولوجية كانوا من تيار اليسار المتشدد، وقد تغيرت مواقفهم مع تغير الوضع السياسي الدولي، وصاروا أكثر ميلا للتقارب مع اوروبا بهدف مواجهة «الغول» الأميركي الذي كرهوه في الماضي ويكرهونه اليوم أكثر.

والثانية ان القيادة الحالية لحزب العمال أبعد ما تكون عن القيادة الملتزمة آيديولوجيا، انها قيادة براغماتية الى درجة حولت الواقعية السياسية الى ضرب من ضروب الانتهازية والنفاق واللعب على الحبال بصورة غير مسبوقة في تاريخ هذا الحزب وحقا، قبل بضعة أيام بينما كنت مع بعض الأصدقاء في لقاء سياسي أطرافه في الجانب الآخر مجموعة من الحزبيين قالت لي حركية عمالية «لقد بات في صميم ممارستنا السياسية النظر الى تجربتنا المريرة والطويلة في مواقع المعارضة بين عامي 1978 و1997 (أي قرابة 20 سنة) القول لانفسنا بصوت عال ابدا لن نعود الى تلك الأيام ابدا لن نعود الى الانتحار سياسيا».

للعلم، في تلك الفترة قامت المثالية السياسية بالنسبة الى حزب تضرب جذوره في تربة الحركة العمالية والفكر الاشتراكي، على تأكيد الالتزام بذلك الفكر وقضايا الطبقة العاملة والنضال ضد الرأسمالية العالمية والوقوف بصراحة ـ وتحد أحيانا ـ ضد مواقف الولايات المتحدة ابان حقبة الحرب الباردة. كذلك كانت تنطوي على التشكيك بتحالف مصلحي «فوقي» اوروبي اميركي ضد مصالح العالم الثالث وبالتالي وقف الجناح اليساري الذي قاد الحزب عام 1978 مع نزع السلاح النووي من جانب واحد، والتزم بمعظم الممارسات التقليدية والحمائية للنقابات العمالية، وشكك بجدوى التكامل الاوروبي.

ماذا كانت النتيجة يومذاك؟

النتيجة كانت ان الناخب البريطاني قرر عبر صندوق الاقتراع ان لندن ليست «هانوي الغرب» وانه بارثه الابيض المسيحي الاوروبي وخلفيته الاستعمارية ومستواه المعيشي العالي يفضل مئة مرة العيش تحت حكم اليمين المتطرف اذا كان بديله الوحيد اليسار المتطرف.

هذا هو الدرس الذي هزّ من كانوا جيل شباب حزب العمال خلال عقد السبعينات، والذين هم في واجهة الحياة السياسية البريطانية اليوم

فابن القسيس الاسكوتلندي والشاب الراديكالي الذي أطال شعره دليلا على التمرد والثورة عندما كان طالبا في جامعة ادنبره هو الآن غوردون براون وزير الخزانة الوقور والمتحفظ الذي يضع العصي في طريق اعتماد العملة الأوروبية، تارة بحجة ان معاييره للانضمام لم تحقق بعد، وطورا لأن واقع الوضع الاقتصادي الداخلي يفرض ترك الخيارات مفتوحة.

وذلك الشاب الماركسي الذي كان في يوم من أيام رئيس اتحاد طلبة بريطانيا، هو الآن وزير الخارجية جاك سترو، الذي يزايد في «غربيته» على كولن باول، ويقول في خطبه عن الكتلة السوفياتية وحلف وارسو ما لم يقله مالك في الخمر وجرير في الفرزدق.

المسألة الأوروبية في ما يخص حزب العمال البريطاني، كما رأينا، بعيدة تماما عن الجدل الايديولوجي لأن الايديولوجية أضحت عند القيادة الحالية من الممنوعات.

أتراها اذن مالية اقتصادية بحتة؟

أيضا لا اعتقد ذلك فالمنطق يقول انه اذا كانت دول من دول الكتلة الشرقية السابقة مثل بولندا والمجر وسلوفينيا باتت «مؤهلة» للانضمام الكامل الى اوروبا المستقبل، واذا كانت دول أخرى مثل اليونان والبرتغال، تعد من أفقر دول أوروبا «الغربية»، مرتاحة تماما مع «اليورو» فلماذا توجد صعوبات عند بريطانيا في تقبل هذه العملة؟

أيضا اذا كان بين كبار الداعين الى التكامل الاقتصادي مع اوروبا واعتماد «اليورو» عدد من أساطين اقتصاد السوق وخبراء الاقتصاد من عيار مايكل هيزلتاين نائب رئيس الوزراء المحافظ السابق (وصاحب الثروة المقدرة بنحو 300 مليون جنيه) ووزير الخزانة المحافظ السابق كينيث كلارك، ووزير التجارة والصناعة العمالي السابق بيتر مندلسون فهل ينطلي على أحد الزعم بأن الظروف الحالية «غير مناسبة» للانضمام؟ وهل هناك ضمانة بأن الظروف المستقبلية ستكون «مناسبة» أكثر؟

بل اذا ذهبنا الى «نظرية المؤامرة» التي تقول بأن الانضمام الى «اليورو» سيكون طعنة نجلاء توجه الى صدر الولايات المتحدة، فكيف نفسر ان ايطاليا واسبانيا، اللتين تعدان اليوم أقرب الدول الأوروبية الى خط واشنطن السياسي تعتمدان «اليورو» عملة لهما؟ وان زحف دول أوروبا الشرقية الهاربة من رمضاء التبعية السوفياتية السابقة الى نار التبعية الأميركية نحو «اليورو» لا يوازيه قوة سوى تحمسها لأداء قسم الولاء والطاعة لسيد البيت الأبيض وحروبه الدولية المتواصلة؟

في رأيي المتواضع ان القرار «سياسي ـ بريطاني» وهنا مربط الفرس

فبريطانيا تفهم تماما موقعها في اوروبا وتبعات هذا الموقع في علاقاتها الخاصة جدا مع واشنطن، ومن ثم العالم ككل وهناك الآن تفكير جدي في معظم عواصم العالم ازاء طبيعة العلاقة المطلوب الاحتفاظ بها مع قوة أميركية مطلقة وجامحة ومتفلتة حتى من آخر المواثيق الاعتبارية والمؤسساتية الدولية، وأحيانا يخرج هذا التفكير الى العلن كحالة الرئيس الماليزي الدكتور محضير محمد.

كذلك هناك دعوات صريحة تخرج من واشنطن ومن عواصم أخرى من جهات ومؤسسات لها تأثير على القرار السياسي لانتهاج استراتيجيات محددة أمام خلفيات التأرجح الخطير في الوضع الاقتصادي العالمي، بعد الحرب المعلنة اميركيا على «الارهاب» واحتلال العراق وربما دول أخرى بعده، ان على صعيد موارد النفط، او صناعة النقل، او السياحة، او اسواق المال

وقبالة هذه الدعوات ثمة دعوات مضادة بعضها علني والآخر عملي للانقلاب على الدولار باعتبار هذا الانقلاب هو الوسيلة الوحيدة الكفيلة، بتحجيم الهجمة الاميركية الشرسة على دول العالم ومؤسساته وشرعية نظامه الدولي والوسيلة الوحيدة أيضا لانقاذ أميركا من نفسها ووقف دورانها في حلقة طبع المزيد من الدولارات للهرب من مديونيتها وعجزها وتبذيرها وفي الوقت نفسه تلبية حاجات العالم (القلق) الى عملة تبادل وصرف وتغطية موثوقة في غياب عملة تبادل وصرف وتغطية موثوقة بديلة.

فالعالم يدرك الآن، كما قال أحد الصحافيين البريطانيين أخيرا ان التغلب على أميركا عسكريا أمر مستحيل في ظل تفوقها الاستراتيجي الضخم، ومقاطعتها اقتصاديا ايضا أمر مستحيل في ظل تغلغلها الهائل داخل اقتصادات دول العالم كبيرها وصغيرها وبالتالي لا بديل للعالم من مواجهة أميركا في عملتها، والاستغناء عن هذه العملة كـ«عملة التبادل والادخار والاستثمار» العالمية.

وهكذا، ازاء هذا الجو يمكن ان يفهم الواحد منا سبب التحفظ ومسوغات سياسة التمهل والترقب في لندن، حيث «ترمومتر» المصالح الأميركية الخاصة، والمفوضية الأميركية السامية في «القارة العجوز».