ضريبة الحرب الجديدة

TT

لا يسع المتتبع لمسلسل تراجع سعر صرف الدولار على العملات الرئيسية الاخرى، وخصوصا اليورو الاوروبي مدعاة اعتزاز فرنسا والمانيا، الا يستبعد الظن ـ وبعض الظن «إثم» وإن كان بعضه الآخر «من حسن الفطن» ـ بان واشنطن بدأت تستد ضريبة حرب العراق من اقتصاديات الدول التي تجرأت على مخالفة قرار الحرب.

بادئ ذي بدء، لا بد من التذكير بان تراجع سعر صرف الدولار يخلق مشكلة لأوروبا وللدول المعتمدة على العملة الاميركية كمصدر دخل اساسي لصادراتها ـ وفي مقدمتها دول «اوبك» ـ أما السوق الاميركية فلا تكاد تشعر باثار انخفاض الدولار بل تنعم بايجابياته على صعيد معدلات التضخم فيها وعلى صعيد صادراتها من السلع الاميركية التي سيتحسن موقعها التنافسي تجاه السلع المماثلة للدول الاخرى، وخصوصا الدول الاوروبية التي ستشهد شركاتها تراجعا في هامش ارباحها وتراجعا في الطلب عليها حتى في دول منطقة اليورو.

وإذا كان صحيحا أن الدولار بدأ مسيرة تراجعه قبل نحو السنة فإن تسارع وتيرة هذا التراجع خلال الايام القليلة الماضية تصعب تبرئته من خلفية سياسية بدأت باعلان وزير الخزانة الاميركي، جون سنو، ان انخفاض سعر صرف الدولار مجرد عملية «اعادة تصحيح متواضعة فعلا» لقيمته.

بمنظور موضوعي، قد يبدو تساهل المسؤولين الاميركيين ـ إن لم يكن تشجيعهم ـ لتراجع سعر صرف الدولار على العملات الاخرى الرئيسية (نحو 30 في المائة على مدى السنة المنصرمة)، سياسة مالية متهورة.

ولكن في دولة اصبح حكمها أكثر تمركزا في البيت الابيض من اي عهد مضى ( الوجهان الوحيدان الظاهران على ساحة القرار، باستثناء الرئيس الاميركي، هما وجها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ووزير الخارجية كولن باول) يبدو من الطبيعي الاستنتاج بان موقع وزارة الخزانة ونفوذها تراجعا في واشنطن قبل تراجع سعر الدولار.

هذا لا يعني، بالضرورة أن القرارات المالية في واشنطن اصبحت «مسيسة»، ولكن التساؤل عن «الابعاد» السياسية لسكوت الادارة الاميركية على انخفاض، وربما «خفض»، سعر الدولار ثير تساؤلات سياسية في ظل المعطيات الاقتصادية الراهنة في الولايات المتحدة وتحديدا:

ـ داخليا:سياسة خفض للضرائب قد تزيد العجز في الميزانية الاتحادية من حوالي الـ300 مليار دولار الى 500 مليار دولار وقد تنعكس خللا اضافيا في ميزان المدفوعات الاميركي.

ـ خارجيا: تجربة امبريالية في العراق لم تعرف بعد تبعاتها على الصعيدين المالي والتجاري وحتى على العلاقات الدبلوماسية مع الدول الرئيسية الاخرى. ولا حاجة للتذكير بأن الولايات المتحدة مولت جزءا وافرا من اكلاف حرب الخليج عام 1991 عبر مساهمات من اليابان والسعودية وغيرهما من الدول التي شاركت في حرب تحرير الكويت . أما اليوم، وبحكم اصرارها على التفرد بسياسة «إدارة» العراق، سوف تضطر لان تتحمل، وحدها، اعباء هذه «الادارة».

واضح من تصريحات جون سنو ان واشنطن لن تفعل شيئا، في الوقت الحاضر على الاقل، لاعادة تثبيت سعر صرف الدولار... الامر الذي يضع هذه المهمة على عاتق «الدول الاخرى» التي ستضطر الى مواجهة تدهور سعر الدولار بعمليات تدخل واسع النطاق في الاسواق، وعلى حساب احتياطياتها من العملة الاميركية.

ولان ادارة الرئيس بوش تتهيأ لتنفيذ سياسة ضريبية ومالية تستهدف اعادة انعاش الاقتصاد الاميركي مع بدء العد التنازلي للانتخابات الرئاسية، يبدو الهدف الاول من سياسة خفض الدولار الضغط على «الدول الاخرى» التي تشهد اقتصادياتها نموا ملموسا لترك الباب مفتوحا لارتفاع اسعار عملاتها على العملة الاميركية مع ما يستتبعه ذلك من ارتفاع في حجم المستوردات (الارخص) من الولايات المتحدة بحيث تساهم هي ايضا في مسيرة اعادة انعاش الاقتصاد الاميركي... اي إذا كانت «الدول الاخرى» لم تشارك، طوعا، في حرب العراق فمن واجبها الان ان تشارك، قسرا، في انعاش الاقتصاد الاميركي.