برقع الحساسية

TT

كان الحوار يدور والاوراق تقدم حول مدى تمتع المرأة بحقوقها في المواطنة، واتفق الجميع على أن هناك مشكلة، وأن المرأة تعاني من نقص واضح في تمتعها وممارستها حقوقها الكاملة كمواطنة، ويظل الوضع والاتفاق بين الاطراف المختلفة على هذه الحقيقة حتى يصل الأمر الى رؤية الدين لهذه القضية، فيتبدل الحال ويقف كل طرف مسلم أو مسيحي ليقدم أدلة واثباتات على أن دينه قد قدم للمرأة كل شيء وأعطاها الحقوق، وبدا الامر في مرحلة ما وكأنه مذكرات دفاع تنفي أي تقصير في وجه الطرف الاخر. كان هذا هو المشهد العام في المؤتمر ـ أو «ورشة العمل» ـ الذي شهدته مدينة الاسكندرية الاسبوع الماضي، وذلك في اطار التجربة المهمة التي تقوم بها الهيئة القبطية الانجيلية بالاشتراك مع وزارة الاوقاف المصرية فيما يسمى بمنتدى الحوار، والذي يشارك فيه شباب الوعاظ من الدين الاسلامي والمسيحي بالعمل معا في مجموعات بحث، وتقديم أوراق أو ابحاث مشتركة حول موضوعات مرتبطة بالشأن العام.

ورغم شجاعة التجربة ورغم اهميتها، الا أنني من خلال مشاركتي في ورشتين، وجدت أنه على الرغم من اتفاق الطرفين في الكثير من الامور الا أن مناخا من الحساسية يسود المكان والحوار عندما يقترب النقاش أو الحوار من موضوع يمس أيا من الطرفين، وتتحول القاعة في هذه اللحظة من جمع واحد الى جمعين، وتسود الحساسية والتوجس في بعض الاحيان. ويتحول الامر كالنموذج الذي طرحته في البداية، يقف كل طرف موقف المدافع في موضوع لا يحتاج الى الدفاع ولكن الى النقاش.

هذا النموذج ليس فقط نموذجا مصريا، ولكنه نموذج عربي، فما أن نقترب كاطراف مختلفة دينيا أو مذهبيا أو عرقيا من أمر يقترب مما نعتقد تنفذ اشواكنا وتتلبسنا حالة من «التقنفذ» للدفاع عن النفس، ويسود جو من الحساسية النقاش والحوار، وفي بعض المستويات الاقل ادراكا يتجاوز الامر هذا المستوى الى مستويات اكثر خطورة. وهذا الوضع هو اكثر الاوضاع مناسبة لاي تدخل خارجي لدق أسفين بين اطراف المجتمع الواحد أو اطراف الامة الواحدة.

من بين ما طرح في الحوار تعبير يصلح لان يكون حقيقة نؤمن بها، هذا التعبير يقول ان المسيحي المصري أقرب للمسلم المصري من المسلم في باكستان أو افغانستان، وأن المسلم المصري أقرب للمسيحي المصري من أي مسيحي آخر في العالم. هذا التعبير يصلح لأن ينطبق على كل الاعراق والاديان والمذاهب المشكلة للكيانات العربية منفصلة والكيان العربي ككل، وعدم ادراك هذا الوضع هو الذي يخلق التربة المناسبة للعبث بمستقبل واستقرار مجتمعاتنا. ولكن الادراك وحده ليس هو نهاية المطاف، بل ينبغي أن يتبع هذا الادراك سلوك يتخلص من «برقع» الحساسية في التعامل مع المشكلات الناجمة عن الاختلاف الديني أو المذهبي أو العرقي داخل المجتمعات العربية المختلفة.. أن يسود مناخ المصارحة والحوار المفتوح، وأن يتلبس الجميع حالة من حالات الشجاعة في مواجهة الخلل الناجم عن الحساسية المفرطة لعقود أو قرون سادت بين مكونات المجتمع المختلفة. هذا في رأيي هو الطريق الصحيح الوحيد لتجنب تمزيق أوصال هذه المجتمعات وهذه الامة.

مشهد أخير: من شرفة الفندق شاهدت مياه البحر وهي تجمع بين بعض من شباب الشيوخ والقساوسة بعد نهاية يوم عمل، لم أتمكن من أن أتعرف من منهم الشيخ محمد ومن هو القس مايكل.. كلهم مصريون.

[email protected]