الإرهاب في تجربته التاريخية: عمل لا يقود إلى أي هدف

TT

ينشغل العالم العربي حاليا بالعمليات الارهابية التي نفذت في السعودية والمغرب. ويبدو هذا العمل الارهابي وكأنه خطر داهم مرشح للدوام والاستمرار، وبسبب ما يحيط بهذه العمليات من سرية وغموض، تبدو التنظيمات الخفية المحركة لها وكأنها تنظيمات هائلة الحجم، بينما تكشف التحقيقات غالبا أنها تنظيمات محدودة العدد. وتحيط بالعمليات الارهابية أحيانا هالة من البطولة التي قد تثير مخيلة الشباب، ولكن هل هناك بطولة حقا في هذا النوع من العمليات الارهابية؟

الضالعون في الفكر السياسي على مستوى العالم، والضالعون في بناء الحركات السياسية التقليدية منها والثورية، ينظرون الى العمل الارهابي نظرة مختلفة، يعتبرون العمل الارهابي ذروة في الانحدار السياسي، ويبذلون جهدهم لمواجهته وتعريته، واظهار الزيف الكامن فيه.

ان السؤال الذي يطرحه المناضل على نفسه، سواء كان مناضلا تقليديا أم ثوريا، هو: كيف نغير المجتمع؟ كيف ننقل المجتمع من حال سيئة الى حال جيدة؟ما هو نموذج المجتمع الجديد الذي سندعو الناس له؟ وحسب نوع الجواب الذي يتم تقديمه على هذه الأسئلة العامة وما يتفرع عنها من أسئلة تفصيلية، يتقرر ما اذا كان هذا المناضل، فردا كان أم حزباً أم حركة أم ثورة مسلحة. فكل شكل من أشكال النضال هذه معرض للنجاح والفشل بحسب نضج وصحة الأجوبة التي تتبلور حول أسئلة التغيير المطلوب، فليس كل من يؤسس حزبا معارضا يصبح مناضلا، وليس كل من يقود عملا مسلحا يصبح ثوريا، تسبق ذلك أسئلة لا بد من الاجابة عنها، ولا بد أن تكون الأجوبة صائبة في تحديد الأهداف والأساليب، والا فان تضحيات عظيمة تذهب سدى، وجهودا نبيلة تضيع في خضم أخطاء تصل الى حد الجريمة.

الارهابي لا يحب أن ينشغل بطرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة، انه يتطلع الى انجاز سريع، وتقوده السرعة الى الاعتقاد بأن اغتيال شخص ما قد يدمر نظاما بأكمله، وأن تفجير قنبلة قد يغير المجتمع نحو الصورة التي يريدها. ومن خلال تجارب الارهابيين على مر التاريخ، تبين أن الارهاب لا يستطيع أن يغير شيئا، فلا الاغتيال ولا التفجير يستطيع أن يغير بنية نظام ما، أو يقضي على عدو ما. التغيير له شروط وظروف تتعلق بالشعوب، بالجماهير، بالقوى الاجتماعية، بالظروف الدولية. هل تريد القوى الاجتماعية هذا التغيير أم لا؟ هل هي جاهزة للاسهام في هذا التغيير أم لا؟هل الظروف الدولية مساعدة للتحرك أم لا؟ اذا كان الجواب ايجابياً تكون الظروف مهيئة لبدء العمل، وهو عمل طويل شاق، أما اذا كان الجواب سلبيا فان عمليات تهيئة لا بد أن تستمر وتتوالى، عمليات تركز على التوعية والتثقيف والتنظيم، على مستوى شعبي وليس على مستوى أعضاء التنظيم فقط، وبعدها، وبعدها فقط، يكون التحرك من أجل التغيير، وتكون القوى الاجتماعية هي أساس هذا التحرك، وتكون وسائل النضال الشعبي هي الوسائل المعتمدة.

هكذا سارت عمليات التغيير الناجحة عبر التاريخ وعبر تجارب الشعوب، ولكن الارهابي لا يطيق هذا العمل الدؤوب الطويل المتعب، انه يشعر باليأس من صعوبة الطريق، انه يشعر أن ارادته الشخصية قادرة أن تنوب عن ارادة الأمة، فيتقدم وحيدا للعمل، ولا يجد وسيلة فردية أمامه سوى الاغتيال أو التفجير أو التدمير. وبعد أن يقتل ويفجر ويدمر، يرى أن الأمور بقيت على حالها، فيندفع الى عمل آخر مشابه، وهكذا يتكرر العمل ويتكرر، ويملأ المحيط بالصخب والضجيج، من دون تحقيق انجاز ما. وتتأكد حقيقة تأكدت تاريخيا من قبل، وهي أن الارهاب، وحتى الارهاب الناجح، لا يقود الى أي طريق، ولا يوصل الى أي هدف.

وبحكم الطبيعة السرية للارهاب فانه لا يعلن عن نفسه. لا يعلن عن نفسه كتنظيم، ولا يعلن عن نفسه كبرنامج، ولا يعلن عن نفسه كخطة عمل. انه عمل سري، سري تنظيميا وثقافيا وسياسيا، لا يخاطب الناس، ولا يجد الناس وسيلة لمخاطبته والاتصال به حتى لو أرادوا ذلك. ولهذا السبب يبقى العمل الارهابي معزولاً عن الجماهير، ويبقى حالة فردية ولا يتحول أبداً الى حالة جماهيرية، وبسبب هذه الطبيعة للتنظيم الارهابي فانه يستطيع أن يكسب أفرادا ولكنه لا يستطيع أن يكسب الشارع. انه يخاطب حالات فردية هي في الغالب يائسة أو محبطة، ولكنه لا يستطيع أن يكسب الناس.

واذا كان الارهاب ينمو بحكم طبيعته، بعيدا عن الناس وبمعزل عنهم، فانه يزداد عزلة بعد أن يبدأ في ممارسة العمل، فبعد العمل الارهابي الأول يضطر الى الاختفاء، سواء كان فردا أو مجموعة. وبعد العمل الارهابي الأول تبدأ أجهزة المخابرات بملاحقته، فتنشأ علاقة خفية وسرية ودائمة بين الارهاب والمخابرات، تستمر اياما أو سنوات، ولكن الصفة الأهم فيها أنها علاقة خفية لا تمت الى الناس بصلة. الارهاب يسعى الى الاختباء، والمخابرات تسعى الى الكشف والاعتقال. وتشكل هذه الحالة من العيش عنصرا آخر من عناصر عدم قدرة التنظيم الارهابي على النمو، وبهذا المعنى فان التنظيم الارهابي لا يتكون الا قبل بدء العمل، وهو بعد البدء يتعرض للضمور المتواصل.

وقد حدث في تاريخ الارهاب، أن علاقات من نوع خاص نشأت بين أجهزة المخابرات والتنظيمات الارهابية، فأحيانا كانت أجهزة المخابرات تعرف بوجود تنظيم ارهابي، ومع ذلك لا تلقي القبض على أعضائه، بل تسعى للحفاظ على التنظيم، ثم تدس أحد عناصرها ليكون عضوا فيه، ليعيش كارهابي متطرف، على أن يطلع المخابرات على التعليمات التي تصل اليه، وعلى العمليات الارهابية التي ينوي التنظيم تنفيذها، ليتم افشالها لحظة البدء بالعمل. وكانت التنظيمات الارهابية تعرف لعبة المخابرات معها، فتسعى دائما الى كشف عناصر المخابرات المدسوسة عليها وتبادر الى قتلهم، ولذلك كان من قانون هذه اللعبة أن رجل المخابرات لا يبلغ عن كل عملية يعرف بها، وذلك كي لا يكتشفه التنظيم الارهابي ويبقى حائزا على ثقته. وبالمقابل تسعى الاجهزة من جهتها الى اعتقال كل مسؤول فوق مرتبة عنصرها المدسوس، وذلك حتى تفتح أمامه فرصة الترقي في بنية التنظيم الارهابي والوصول الى قيادته. وهذه هي ذروة عمليات الاختراق التي يمكن أن تصل اليها أجهزة المخابرات في حربها السرية مع المنظمات الارهابية، اذ يصبح الارهاب آنئذ أداة من أدوات المخابرات، بينما يظن الكثيرون أنهم يخدمون هدفا مقدسا.

بعد اول عملية خطف نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ضد شركة «العال» الاسرائيلية، عندما خطفت احدى طائراتها الى الجزائر (عام 1968)، قال لي مسؤول جزائري كبير: ان العمليات الارهابية (العمل الفردي خارج ميدان المعركة) لعبة خطرة، ان العملية الأولى فيها تتم بدوافع وطنية ولكن لا أحد يعرف بأية دوافع تتم العملية الثانية. وواصل شرحه قائلا: بعد العملية الأولى يحتاج الارهابي الى الحماية، فيلجأ الى بلد ما طالبا هذه الحماية، وبحسب هذا البلد تتقرر وجهة العمليات التالية، اذ غالبا ما يسعى بلد الحماية الى استخدام الارهابي من أجل مصالحه، فتتداخل الأهداف الوطنية مع أهداف النظام الحامي، ولا يعود الأمر مرهونا بارادة المخططين والمنفذين فقط. وربما لهذا قررت الجبهة الشعبية مبكرا وقف ما كانت تسميه (العمليات الخارجية).

بسبب هذه المواصفات التي ذكرناها، رفض جميع القادة السياسيين الكبار، وحتى الثوريين منهم، الاعتماد على العمل الارهابي كأسلوب للتغيير، وأصروا على العمل الجماهيري المنظم، وراهنوا على أهمية التثقيف الفكري في الوصول الى أهدافهم، ووضعوا للتغيير شروطا لا يكون الا بها، وأولها نضج الظروف الاجتماعية، ورغبة الناس في الاسهام في هذا التغيير، واستنكروا أن يضع أي فرد نفسه بديلا لارادة الناس، ولم يروا في الاغتيال أو التدمير عملا ثوريا، بل جريمة تستحق العقاب.