فوضى النيران

TT

عندما ندقق النظر قليلا في كيفية التعاطي العربي مع الأزمات، نصطدم بعوائق منهجية، تتحول أمامها الأزمات إلى انفراجات غير معلنة. فالأسلوب الذي ندير به الازمات، يجعلنا الأهل الأصليين لوضعية الحلقة المفرغة، التي تتميز بقدرة طفيلية على التكاثر وعلى توليد الأزمات. وهو ما يعني أن أزمتنا الأساسية تكمن في إدارة الأزمات، التي تحل بنا وليس في الأزمة ذاتها، إذ أن كل معالجة حقيقية لأي مأزق تشترط من المعالجين قدرا موضوعيا من الصدق ومن المنطق ومن الحق ومن الإيمان بجدوى الوصفات الطويلة المدى، أو حتى تلك الأبدية منها. ونحن مع الأسف لا نحسن الاستجابة للشروط النابعة من داخل الحقائق والظواهر، وهو قصور قادتنا إليه طريقة تسييس المصالح والأحلام والطموحات، وتجاهلنا حقيقة أن التسييس إحالة مباشرة على الممكن، والممكن يرتبط بدوره بما هو مرحلي وظرفي، إذ الفعل السياسي العربي الحالي، لا يحسب حسابا إلا للريح العاتية، ولم يتعلم سوى ضرورة الانحناء لها اتقاء الشر قد يهب معها، وقد يفيد الانحناء فاعله، ولكن هذه الإفادة لا تتجاوز كونها تجعل الشر الآتي حتما ومؤجلا. ولذلك فإن قراءة في طبيعة الإرث الذي يتركه كل جيل لمن بعده من الأجيال في البلدان العربية، ستكشف لنا أنه إرث من أزمات وقع تأجيلها ولم تحظ بالعلاج المناسب، فأحدث ذلك تفاقما خطيرا في الأزمات وتحولنا من أمة مصابة بزكام، إلى أمة أتى المرض الخبيث على رئتيها.

إذاً أزمتنا الكامنة في إدارة الأزمات، ما زالت متواصلة وما زلنا نصر على بقائها حتى لكأننا لا نتجند إلا لسوء إدارتها، ذلك التجنيد الذي يكشفه الإعلام بشكل متواتر، مع العلم بأنه طرف فاعل وحقيقي في زيادة تغلغل أزمة إدارة الأزمات، التي تستحق منا توفير وزارة خاصة بها.

وإذا ما نظرنا هذه الأيام، في الطريقة التي تعاملت بها بعض الأطراف مع أحداث الرياض والدار البيضاء، فإن تلك الكيفية في حد ذاتها، كافية جدا لتفسير دواعي تلك الانفجارات، في حين أن هناك أسئلة أخرى نتحاشى طرحها.

ولا أدري لماذا يصر بعض أصحاب القلوب الرحيمة من النخب العربية، على ارتكاب بلبلة واحداث جعجعة ونشر طلاسم لا تمت لحقيقة الأزمة بأي شيء.

إن التفجيرات الأخيرة التي اصابت مدينتي الرياض والدار البيضاء تستوجب منا، حسب اعتقادي، تجاوز الارتباك الطبيعي الذي أحدثته، والمرور إلى ترتيب الأزمة قبل الإسراع إلى إطفائها على شاكلة الحريق المندلع فجأة، كعادة أي حريق غير مدبر، وإذا كان مدبرا فمن الخطأ الاكتفاء بما تقوله الصورة الظاهرة، إذ المدبر عادة لا يظهر، ومثل هذا التخفي يحتم علينا دائما البحث عن المدبر الحقيقي والأول، وهو ما يمكن أن نسميه بعملية تأصيل الأزمة وإعادتها إلى حيث أصل الاندلاع.

ولكن هل ما حصل بالمعنى الرمزي تنطبق عليه مواصفات الحريق الذي اندلع فجأة؟

أظن أننا إذا اعتمدنا بديهة أن للنار ماهية واحدة، فإن الذي حصل هو حريق هائل، أما إذا استعنا بالحياة كتجربة لا تنضب، فإنه يوجد من النيران من تتشبه بالماء، بمعنى أنها نار لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، وأغلب الظن أن أزمة تفجيرات الرياض والدار البيضاء، تنطبق عليها النار الثانية أكثر من النار الأولى.

كما يحتم علينا حسن إدارة هذه الأزمة أن لا نستعير عيون الاميركيين والبريطانيين للنظر بها، فعيونهم عيون المدبر الأصلي لهذه العمليات التي تندرج في خانة رد الفعل الأعمى، وحتى اللامعقول وليست في منطقة الهجوم، وذلك حتى إن اختلفنا في قراءة رد الفعل أو الدفاع عنه، وهي مسألة أخرى مغايرة تذكرنا بالفرق بين القتل مع سبق الإصرار والترصد، والقتل بوجه الخطأ. إن استعارة العيون الاميركية للنظر إلى أزماتنا، ستزيد في هوة الأزمة، وفي تعميق حالة الانفصام التي نعيش، إضافة إلى أن مجرد وصولنا إلى مرحلة نقرأ فيها أزماتنا في ضوء العقل الأميركي، فهو العلامة الأولى على أمركة العقل العربي وهي أمركة لا تخدم سوى العقل الأميركي.

ولعل حتى الذين يقبلون بواقع أمركة العقل العربي، والأزمات وطرق إدارتها، يجدون صعوبات جمة في تحقيق هذه الأمركة والوفاء لها، ذلك أنها تصطدم بمعجم يتعارض مع قاموسها، وذلك لأنها نسيت وهي تؤمرك العقل أن تؤمرك الثقافة والقلب والروح والنفس والصحراء والأخلاق، وهو والحمد لله أمر عصي حتى لو تحولنا كلنا إلى مايكل جاكسون، المشهور بقدرته على التبدل والتفسخ من لون إلى لون.

إن أول عملية يقوم به متأزم خبيث، هو السعي إلى تصدير أزمته وتعميمها وإخراجها من المدار الضيق الخاص به، لكسب حلفاء وللتمكن من تسريب مقولات ذات اهتمامات إنسانية كبرى، كحقوق الإنسان والحرية ونبذ العنف. ويظهر أن البلدان العربية قد سقطت في الفخ واعتقدت أننا المعنيون بتفجيرات الرياض والدار البيضاء، والتي رغم إصابتها لنا على أكثر من صعيد، فإن المعني بها هو أميركا، وهي الحقيقة التي يجب أن لا نتغافل عنها وذلك لأنها ستساعدنا في إدارة هذه الأزمة وفي حسن ترتيبها. فالأزمة هي ضد أميركا وهي رد فعل متشنج على الهيمنة والتجاوزات الأميركية. وبالتالي فإن المتسبب الأصلي للتفجيرات هو الإدارة الأميركية وهو ما يعني أن الأزمة أزمتها، وهي المعنية بإدارتها وبتحمل تبعاتها، لأن العالم كان رافضا للحرب على ما تسميه هي بالإرهاب، بتلك الطريقة، وعبر أكثر من مسؤول رسمي في البلدان الأوربية، وكذلك في المنطقة العربية بأن الحرب على الإرهاب، تولد الإرهاب، داعين أميركا بعد 11 سبتمبر إلى أن تنظر في أسباب ما حصل، وأن لا تكتفي بالنتيجة وتتفاعل معها كسبب وكحجة.

وفي إطار التأصيل أيضا، تستلزم منا نفس الأزمة أن نغير موقعنا فيها من دون أن نقع في المساندة أو في تبريرها التبرير الإيجابي، إذ أن الجماعات الإسلامية هي جزء من المجتمعات الإسلامية، بل ان جزءا كبيرا من هذه المجتمعات، ولو كان صغيرا، يساندها ويجد نفسه في مشروعها.

إذا ما اخترنا موقف الحياد، فإنه لا بد من التفطن إلى التغييرات التي طرأت على النظام العالمي، إذ انشغلنا بأحادية تسيير العالم وبوجود القوة الواحدة ولم ننتبه إلى ظهور طرف مقابل للقوة الواحدة يتمتع بخصوصيات تختلف عن الخصوصيات التي تحملها الأطراف المتصارعة سابقا. فالواقع العالمي اليوم، لا يساعد على صراع مؤسسات كبرى، حتى لو كانت تلك مؤسسات دولا، ولقد انتهى زمن الكتل المسماة وذات العنوان والحدود المعروفة، لذلك فإن الصراع السري قد رشح نفسه لتسيير حقبة جديدة من حقب العالم. والدليل هو أنه لا يمكن لأي مؤسسة أن تقف اليوم في وجه أميركا. ولذلك فإن أغلب الدول ترتجف منها، بينما ما يجعل أميركا ترتجف هو تلك القوى المضادة لها، وغير المرئية وغير المؤسسة. والمدهش هو أن السياسة الأميركية هي التي مهدت لبروز الصراع السري الذي يعتمد أساليب العصابات والمباغتة، وهي التي ستتضرر منه أكثر من أي جهة أخرى.

اما في ما يخص البلدان العربية، فإن الخطر الحقيقي الذي تعيشه يكمن في انها إلى حد الآن، تسيء إدارة أزمة تعتبرها أزمتها جملة وتفصيلا، بالإضافة إلى أنها لم تؤسس لظهور تعبيرات مختلفة يجري الاستعانة بها حين تقع الفأس في الرأس.

[email protected]