احتواء آلام التمييز وعدم التسامح

TT

قبل أربعين عاما، وبالتحديد يوم 28 أغسطس (آب) من عام 1963، احتشد 250 الف أميركي في العاصمة واشنطن، مطالبين بالحقوق المدنية والسياسية الكاملة للأميركيين من أصول أفريقية. مسيرة واشنطن تلك مثلت نقطة تحول بارزة ولحظة حسم بالنسبة لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.

أمام جمهور «مسيرة واشنطن» تلك، ألقى القس مارتن لوثر كنغ الابن، خطابه الشهير «لدي حلم». ذلك الخطاب الذي تضمن دعوة بليغة للمساواة العرقية، استمع اليه الملايين وكان له أثره في ضمير الأمة.

حينها كانت معظم أرجاء الولايات المتحدة رهينة لتراث العبودية ـ ذلك التراث الذي خلفه استقدام ملايين البشر من أفريقيا إلى أميركا ومعاملتهم كرقيق، رغم انهم كانوا قد حصلوا على حريتهم بناء على قرار الرئيس أبرهام لينكولن الشهير، المعروف بـ«إعلان تحرير الرقيق»، الا أن الأميركيين من أصول أفريقية ظلوا رهينة الفقر والقوانين والعادات التي جعلت حقوقهم والفرص المتاحة أمامهم منقوصة وعطلت تقدمهم إلى الأمام.

كانت حركة الحقوق المدنية، التي نمت خلال أواسط القرن العشرين، عبارة عن جهد متسع القواعد من أجل التصدي للقوانين المعمول بها والتي استندت الى التمييز العرقي وباتت ملمحا لمواطني أميركا من السود. وسواء أقاموا في شمال البلاد أو في جنوبها، فقد عانى معظم الأميركيين من التمييز الذي كان مفروضا عليهم في التعليم وفرص العمل وأماكن الإقامة.

على أن العديد من الأميركيين لم يتعلموا، على ما يبدو، درسا من حقيقة تلك الفترة الرهيبة، عندما لم يكن يسمح للأميركيين السود بارتياد مطاعم ومدارس وأحياء «البيض فقط». وفي العديد من الولايات، نتيجة لقوانين التمييز، حرم الأميركييون من أصول أفريقية من فرص الإدلاء بأصواتهم خلال الانتخابات.

لقد أتيحت لحركة الحقوق المدنية، التي مثلت تحدياً مسالماً إلى حد كبير لواقع التمييز ذاك، أفضل فرصة للتعبير عن وجودها من خلال مسيرة عام 1963. حيث تضامن ائتلاف الأميركيين من أصول أفريقية وتجمع العمالة المنظمة وغيرها من التجمعات الدينية الرئيسية، معا، للمطالبة بإحداث التحول ـ الذي بات على الأبواب.

من بين المطالب التي رفعتها مسيرة واشنطن :

* سن تشريعات مجدية متعلقة بالحقوق المدنية.

* إزالة مظاهر التمييز العرقي في المدارس العامة وأماكن الإقامة وفرص العمل.

* أن تشمل حقوق المشاركة في الانتخابات جميع الأميركيين.

عقب تلك المسيرة مباشرة التقى الرئيس جون إف كنيدي بقيادة الحركة. وعقب اغتيال كنيدي واصل خليفته الرئيس ليندون جونسون تبني برنامج عمل الحقوق المدنية ونجح في تمرير قانون الحقوق المدنية لعام 1994، وفي عام 1965 دفع بقانون حقوق التصويت إلى الأمام.

لقد تم حظر التمييز العرقي في المساكن والتعليم وفرص العمل وتمت إزالة معوقات حقوق المشاركة في الانتخابات.

لكن التحول لم يكن فوريا، وتواصلت مظاهر التصدي للمساواة التامة، متخذة مظاهر مستحدثة. ولذلك فقد لزم منطقيا أن تتواصل مسيرة حركة الحقوق المدنية هي الأخرى.

خلال عامي 1983 و1993 جرى تنظيم مسيرتين للاحتفال بالذكرى العشرين والثلاثين لمسيرة واشنطن لعام 1963، ولمواصلة الضغط بشأن ما تبقى من النضال من أجل العدالة.

بالرغم من أن الأميركيين من أصول عربية كانوا حاضرين خلال بداية حركة الحقوق المدنية، الا أنهم حضروا كأفراد وليس كجالية منظمة.

وبحلول عام 1983، كان وضعهم قد تبدل. فقد بدأوا بتنظيم شؤونهم وباتوا يشكلون قوى سياسية في حياة أميركا. وهكذا، فقد وجهت لنا الدعوة للمشاركة في تنظيم المسيرات اللاحقة. ورغم تصدي البعض لمشاركتنا، الا أنني والسيناتور جيمس أبو رزق شاركنا ورتبنا لمشاركة الأميركيين من أصول عربية في المسيرة، وأتيحت لنا فرصة مخاطبة الحشود.

في مسيرة عام 1993، استفدت من خطابي للحديث عن مشاعر العداء للمهاجرين التي شعر بها القادمون الجدد من العالم العربي ومن غيره من الأماكن إلى الولايات المتحدة. وقد طرحت التالي:

«من دواعي السرور أن يشارك المرء في هذا الاحتفال المتجدد. فأنا وغيري من الأميركيين العرب الذين ينتشرون في أنحاء هذه الأمة العظيمة، ويشتركون في مسيرة اليوم، نفعل ذلك لأننا نشعر بحلم الدكتور مارتن لوثر كنغ الابن.

«نحن أيضا نعتبر أنفسنا ورثة وعوده ونحن أيضا سنحمل مشاعله للأجيال المقبلة...».

«نحن نهتم لأن هناك موجة خطيرة في عالم اليوم، العداء للمهاجرين، والعداء للأجانب الناتج عن المعاناة الاقتصادية. وهي مشاعر تغذي الجهل وتخلق حالة من اللاتسامح، وتجعلنا نشعر بالخطر...»

«تأملوا أولئك الذين يطرقون أبوابنا وينتشرون وسطنا ممن لم يجيدوا لغتنا بعد، وهم يمرون بتجربة الم التمييز وعبء اللاتسامح. بالتأكيد لا بد أن يؤدي تحالفنا العظيم إلى إحتوائهم».

«فهؤلاء أيضا هم أخوة لنا وأخوات... لكنهم لو تخلوا عن مخاوفهم، ولو تخلينا عن تحاملنا المسبق ضدهم، فسنتعرف على عملهم الشاق والتزامهم وأمالهم وإيمانهم بوعودنا. على مر الأجيال، ظلوا دائما المنبع الذي مدنا بحياة جديدة وعزم متجدد، وجددوا فينا الشعور بما تعنيه أميركا...»

«تمثال تلك السيدة المنتصب في ذلك المرفأ يشير اليهم ويقول: تعالوا الي معشر المنهكين والفقراء والجموع المحتشدة الذين يشعرون بالحنين للتنفس بحرية. ويا أيتها الشواطئ المكتضة بالبشر إبعثي لي بهولاء الذين بلا مأوى وقد القت بهم العواصف، إبعثيهم الي».

«إذا ما سمحنا لموجة اللاتسامح أن تحيل ذلك الوعد إلى عبارات جوفاء فحينئذ، وهذا ما أخشاه، سيضمحل شيء ثمين من روح أميركا».

«دعونا، هنا اليوم، نلزم أنفسنا بوعد مارتن لوثر كنغ لجميع إخوتنا وأخواتنا، بحيث نضع حدا لأولئك الذين قد يغلقون أبوابنا ويجعلونا نتصدى لأميركيي الغد. دعونا نحن الذين نشكل هذه المسيرة العظيمة نلزم أنفسنا بأميركا المتسامحة والمتنوعة والتي توفر الحرية للجميع».

ومع ظهور بوادر تهديدات حديثة تتعرض لها الحقوق المدنية ويشعر بها بوجه خاص المهاجرون الجدد من العالم العربي ومسلمو جنوب آسيا، فقد تشرفت مرة أخرى بقبول دعوة للمشاركة كأحد منظمي الاحتفال بالذكرى الأربعين لمسيرة واشنطن، والذي سيتم يوم 23 أغسطس (آب) المقبل.

ومع تزايد حدة «التمييز» ضد العرب والمسلمين، إضافة إلى المخاوف المتواصلة من جرائم الكراهية وغيرها من أشكال التمييز، يبقى أيضا مهما بالنسبة لحركة الحقوق المدنية أن تتصدى للتحديات التي تواجه المساواة التامة بين جميع الأميركيين.

لقد رحل عنا الدكتور كنغ وكنيدي، لكن المبادئ التي قامت عليها حركة الحقوق المدنية ما تزال تعيش بيننا إلى حد كبير.

سيشارك الأميركيون العرب في مسيرة أغسطس، معا إلى جانب الالاف من الآخرين ممن ينتمون لمختلف الأعراق والأديان، في إطار جهد متجدد مشترك لجعل حلم الدكتور مارتن لوثر كنغ حقيقة، ونحن نعيش القرن الحادي والعشرين.

*رئيس المعهد الأميركي العربي في واشنطن