سجّل أنا «شرق أوسطي»

TT

هنيئاً لأمة العرب شهوة التفتت التي تعيشها بإخلاص مدجج بالنظريات والتحليلات المثيرة للهلع. والتسلح بالحكمة والفطنة متواصل لإثبات أن العروبة (على مداها) هي تعصب وانغلاق، باعتبار ان القطرية (على ضيقها) هي الحرية والانفتاح. رغم أن القضية ليست بحاجة لإلغاء هوية ما يناهز ثلاث مئة مليون عربي وحبسهم في زنازين هي أشباه دول، كي تشعر إسرائيل بالاطمئنان وتعيش وسط هذا المحيط الناطق بالعربية بوئام، فـ«سلام الشجعان» والعقلاء، كفيل بأن يجعل سكانها الحاليين يتمتعون بأفضل مما يلاقيه الأكراد والبربر أو فقراء لبنان ومصر من الهوان. وقد جاء قبل يهود أوروبا وروسيا إلى المنطقة من الملل الكثير، ولم يرم أي منهم في البحر أو النهر، وتغيرت المسميات والأطر من إسلامية إلى عروبية ومن ثم الضبابية التي نكابد. وبقي العرب وضيوفهم، ثقيل الظل منهم وخفيفه، يصارعون من أجل سقف وكسرة خبز. فالأرض تسع الجميع لكن العقول المتزمتة تضيق بغبائها . وإذا كانت مفردة «انفتاح» مزودة بسهم واحد يشير باتجاه إسرائيل المهووسة ببناء «السور الواقي» لعنصريتها، فيما ترفع سدود العزل بين الاقطار المتشابكة جذور بواطنها السرية المعتقة، فإن المشروع واهٍ، كما القصور في الهواء، وسيتداعى على رؤوس الواهمين. ولن يطول الوقت قبل أن نرى الأرض تنقسم على نفسها، والحواجز الدموية تقام بين المناطق والأحياء وقد تحيل الشارع الواحد إلى ازقة، كالخلية المريضة الآيلة على الانتحار.

فمن العسير أن تحب عدوك او اخاك إذا كنت مبغضاً لذاتك، حاقداً عليها. وقد استفاد من هذا المبدأ التربويون الفرنسيون لحل مشاكل الجيل الثاني من المهاجرين العرب عندهم، الذين عانى عديدهم من الانحراف والعنف، وتبين أن ذلك عائد بشكل أساسي إلى إحساسهم بالقطيعة مع جذورهم، وفقدهم الاحترام الكافي لذواتهم وقد باتت ذاوية، والحل لا يكون بغير تقوية ثقتهم بالنفس من خلال تعليمهم العربية وتفقيههم بعمق وامتداد الحضارة التي ينتمون إليها، كي ينتشوا باكتمال إنسانيتهم .

وإذا كان البعض يدعونا لشطب قصيدة محمود درويش «سجّل أنا عربي» من ديوان العرب ليلحقنا بالضامرة أحلامهم من المهاجرين العرب، وليكتب عوضاً عنها أخرى جديدة «تسامحية» مطلعها «سجّل أنا شرق أوسطي»، فإن الثانية ـ كما تقول التجارب ـ لا تصح من دون ضخّ الأولى بالحياة والعافية. ودرويش يحذّر من عروبة جريحة في القصيدة نفسها معلناً من دون لبس: «سجل برأس الصفحة الأولى.. أنا لا أكره الناس.. ولا أسطو على أحد.. ولكني.. إذا ما جعتُ آكل لحم مغتصبي. حذار.. حذار.. من جوعي ومن غضبي!!». والجوع، على تنوعاته، حين يجعل المعدة تئنّ والروح المختنقة تكتوي عطشاً إلى أفقها المسدود بالشر والصفيح، فإن السوية النفسية تصبح من المتطلبات العصية.

لن يخسر العرب سوى بعض الأسطوانات وأشرطة التسجيل لو أتلفوا أغنية سيد مكاوي «الأرض بتتكلم عربي» في زمن فيض الغناء والمغنين، لكنهم سيقضون، بعد ذلك، عقوداً من التيه، يبحثون عن اللغة البديلة التي تتحدثها هذه التربة الهجينة، وقد تحولت الأصوات همهمات بهماء، دون أن يجدي نفعاً إتقان اللغات الأجنبية والتراطن بالأعجمية، فالعجمة بمفهوم علماء اللغة، لصيقة البهيمية...

وقبل أن يكتب ساطع الحصري عن العرب وينظّر للعروبة، ويبدع قسطنطين زريق في تشريح المفهومين بقلمه المشرّع على الإنسانية جمعاء، سبقهما الجاحظ بمقاطع بديعة معتبراً ان امتزاج قبائل العرب المتفرقة أتى بفعل التشابه والتقارب، فهم قد «استووا في التربة وفي اللغة، والشمائل والهمة، وفي الأنف والحمية، وفي الأخلاق والسجية، فسبكوا سبكاً واحداً، وأفرغوا إفراغاً واحداً، وكان القالب واحداً، تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط، وحين صار ذلك أشد تشابهاً في باب الأعم والأخص.. من بعض ذوي الأرحام، جرى عليهم حكم الاتفاق في الحسب وصارت هذه ولادة أخرى، حتى تناكحوا عليها وتصاهروا من أجلها...». فالتزاوج حصل بفعل الاتفاق الذهني، وهذا الأخير تحقق بسبب التقارب في البقعة والمكان. ولمن يدعي ان العروبة هي عنصرية ضيقة وتزمت، متجاهلاً أن العربية ليس لها من أب أو أم، وإنما كل من تكلم العربية فهو عربي، بدا كمن يحاكم الحضارة والثقافة في محكمة السياسة الفاسدة. والمأساة دائماً أن الحمقى هم الذين يصنعون التاريخ، والنبهاء بالكاد يملكون سلطة خطّ سطورهم على رثّ الورق. والناس لا يميزون بين أن يكونوا عرباً بالانتماء والهوية، وهذا يمتد إلى ما قبل الجاحظ بكثير، وأن يبتليهم الدهر بساسة لا علاقة لهم بالجغرافيا أو نبض التاريخ، ولا يميزون بين أن تعتبر الجامعة العربية في نزعها الأخير، آخر معالم العروبة بوجهها السلطوي، والمكتبة العربية بما فيها من مئات، وربما آلاف المؤلفات التي وضعت في سبيل تحويل العاطفة العروبية المكبوته إلى مؤسسة محسوسة، هي قلعة حصينة لا علاقة لها بالبناء البسكوتي للجامعة الميمونة التي صارت بفعل الدهر والدهرية مسرحاً للدمى، فقد الجمهور شهية التصفيق لها، وفقدت (أي الدمى) قدرتها على أداء دورها بسبب سوء التلقين.

ما تزال فرنسا تغمر كيبك بدفء حنانها إكراماً للفرنسية وثقافتها، والأميركيون والإنجليز والكنديون والأستراليون تتهاتف قلوبهم مختزلة البحار والمحيطات كرمى لعين اللغة ونسلها الخصيب. فما عيب العربية، وهل خلقت من ضلعٍ أعوجٍ هي الأخرى، كي ُتلحق بالنساء اضطهاداً وإنكارا. ورجاء قبل أن تفتح صالونات العزاء لوداع المغفور لها «العروبة» وتقرأ الفاتحة على روحها، وتدفن بشماتة كما ابنة زنى، أراحت واستراحت، هل لنا أن نتأكد، أولاً، إذا كان رحم الأمة مازال قادراً على الإنجاب.