القاضي والبصل

TT

كتبت وأفضت بالكثير عما يعانيه البصل من الظلم والاحتقار في عالمنا العربي. وقد علق على ذلك السيد يعقوب اكيرة (واعذرني يا اخي يعقوب إن اخطأت في كتابة اسمك. فأنت كتبته بثلاثة اشكال وحيرتني) فأشار الى البقرات التي كان احد الفلاحين يطعمها البصل. قال ان احد كبار تجار بغداد كان يشتري الحليب من هذا الرجل ولكن حليبه كان دائما يحمل نكهة البصل بسبب اعطاء هذه المادة لأبقاره كعلف. تضايقت العائلة من هذا الحليب المبصل وأقنعوا والدهم بشراء بقرة ليضمنوا الحصول على حليب نقي غير مبصل.

خرج الأب فصادف ذلك الفلاح يسوق واحدة من بقراته في الطريق فعرض عليه شراءها. وتساوما على السعر واتفقا على ثلاثة دنانير ثمنا لها. دفع التاجر ذلك الى الفلاح وأنجز الصفقة. ولكن بعد ان وضع الفلاح الدنانير الثلاثة في جيبه مضى مع البقرة في حال سبيله. ركض التاجر وراءه وقال: اين؟ أين تذهب بها؟ لقد اشتريتها منك. فأنكر الفلاح ذلك. تعالى صياحهما ومسكا بتلابيب بعضهما البعض وحضر القوم ليفكوا ما بينهما ويحاولوا حل النزاع. ولكن هيهات. لا التاجر يرضخ لفقد دنانيره ولا الفلاح يرضى بمفارقة بقرته. جاءوا بالشرطة فقبضت عليهما كما تفعل الشرطة العراقية دائما. اشبعوهما ضربا ثم احالوهما الى القاضي.

يروي الأخ يعقوب فيقول ان القاضي كان ذلك القاضي الظريف عبد العزيز الخياط. استمع لدفوع الطرفين. اشار التاجر الى الدنانير الثلاثة التي في جيب الفلاح وقال هذه دنانيري ثمن البقرة. وقال الفلاح، لا، استغفر الله. هذه دنانيري انا. واقسم الفلاح بالإمام علي. فرد عليه التاجر وقال هذا غير صحيح. فلا يجوز القسم بالإمام علي او أي امام. القسم بالله فقط. ودخلت المحكمة في مناقشة طويلة فيما اذا يجوز للمسلم القسم بالأئمة او لا يجوز. وانصرم النهار ولم تحسم المناقشة وبقيت القضية معلقة الى اليوم التالي. لسوء حظ التاجر ان اليوم التالي كان فاتح شهر رمضان الشريف. واعتبر السيد عبد العزيز الخياط استقبال الشهر المبارك بقضية بقرة تأكل البصل شيئا مكروها فرفض النظر فيها واجل الدعوى الى ما بعد رمضان المبارك. وحدد يوما لذلك. ولكن الجيش قام بانقلاب عسكري في ذلك اليوم وفرضوا منع التجول. ورأى ضباط الشرطة أن منع التجول يشمل تجول الأبقار والأغنام ايضا فتعذر جلب البقرة التي تأكل البصل الى المحكمة. وأجلت القضية الى يوم آخر في شهر رجب.

وكان يوما صافيا مناسبا للنظر في قضايا العدالة، وهو طبعا شيء نادر في العالم العربي، فجيء بالبقرة والثلاثة. تحير القاضي في الأمر. فقد لاحظ ان كلا الطرفين كان مستعدا للادعاء بأي أمر والقسم بأي شيء طالما تعلق الموضوع بمصير ثلاثة دنانير. وكان الدينار في ذلك الزمان دينارا يأتي للرجل بزوجة بكر لم يمسسها احد. فأمر القاضي بإخراجهما من قاعة المحكمة للتشاور ودراسة الأوراق. بعد ساعة من الزمن قضاها في شرب القهوة ومكالمة زوجته أم سعدون، نادى عليهما ثانية. التفت الى الفلاح فقال: يا رجل لقد فحصنا البقرة وفحصنا الدنانير. تبين ان هذه البقرة تأكل البصل في زمن مجاعة ولا يوجد بصل في السوق لأكل المسلمين. وهذه عقوبتها ثلاثة اشهر. وتبين ايضا ان هذه الدنانير مزورة وعقوبتها عشر سنوات مع الأشغال الشاقة لمن يحملها. والآن قل الحقيقة للمحكمة ولا تكذب مثل الجرائد. لمن هذه الدنانير الثلاثة المزورة؟ لاحظ الفلاح ان ثلاثة اشهر في السجن اهون من عشر سنوات فأسرع وقال يا حضرة القاضي، ما اقول غير الصدق. هذي الدنانير اعطاني اياها هذا التاجر سعر البقرة وانا ما ادري انها مزورة. والبقرة انا بعتها وهو صاحبها.

وعندئذ حكم القاضي عبد العزيز الخياط بالبقرة للتاجر. وقال لقد تبين الحق من الباطل. وكان يعني بذلك ان التجار دائما على حق.

يعلق السيد يعقوب على الحكاية فيقول هكذا كانت العدالة في تلك الأيام الخوالي. وهكذا كان القضاة يتفننون في استنباط الحقائق. كانت حياتهم صعبة. ففي هذه الأيام تأتيهم القضايا مرتبة ومنسقة من المخابرات مشفوعة بالاعترافات الكاملة. وكلما لاحظ القاضي نقصا في الأدلة اعاد المتهم الى زنزانته لتتولى المخابرات امره وتحصل منها ما يريده القاضي. وفي كثير من الأحيان يموت المتهم في الزنزانة اثناء ذلك ويكفي القاضي مشقة النظر في قضيته.