نار الفتنة.. وحطبها

TT

كيف وصلنا الى هذه الفتنة التي لا يكاد ينجو منها بلد، أو مجتمع، أو جالية في مهجر، بل ان بيوتا تتصدّع بسببها فتشتت عائلات وتفرّق أحبة؟ لا تولد الفتن من رحم الفراغ، ولا يستقيم القول ان طرفا واحدا مسؤول عن فتنة الغلو التي تعصف بنا. لا شك ان اطرافا عدة ألقت حطبها في موقد هذه الفتنة قبل ان تشب ألسنتها نارا على النحو الذي نراه، بهذا الاتساع والتمدد والخطورة. هناك اولا اميركا واسرائيل. وهناك ثانيا الاتحاد السوفياتي. وهناك ثالثا نحن. واذا رغب البعض في التقديم والتأخير في الترتيب فلا مانع، لكن يبقى ان كلا من الاطراف الثلاثة اسهم في النفخ في نار الفتنة والقاء الحطب في موقدها.

أميركا مسؤولة بصفتها زعيمة غرب غير منصف. واسرائيل، بصفتها أكبر مظالم القرن العشرين وأشد اشكال الاستعمار اجراما. الاتحاد السوفياتي مسؤول بصفته الكذّاب الكبير الذي مارس الاستعمار والاحتلال ملتحفا عباءة التحرر والتقدمية. ثم هناك مسؤوليتنا نحن، بكل صفاتنا، تلك التي هي فينا، وتلك التي توهمناها. حطب ألقته أنظمة. وحطب ألقته أحزاب. حطب ألقاه مفكرون اعتبروا انفسهم وحدهم على حق وغيرهم في ظلمات الضلال، وحطب القاه آخرون صدقوا أنهم وحدهم يرون أنوار الحضارة بينما غيرهم يغرق في ظلمات الكهوف. حطب ألقاه رجال اعمال ومال أثروا بغير الكسب الحلال، فما خافوا ربا ولا استتروا، بل راحوا يفحشون غير مكترثين بأكوام من دم ولحم تهيم جائعة حول تلال القمامة الآتية من فيلاتهم!

الجميع مسؤولون. كل بقدر. والنصيب الأول، والأكبر، من المسؤولية يذهب الى أميركا واسرائيل. لقد اختارت اميركا منذ قيام اسرائيل ان تغمض عينيها عن حق الفلسطينيين فيما راحت تفتحهما على اتساعهما في اسناد باطل الاسرائيليين. ثم جاءت نكبة حزيران، ومنذ ستة وثلاثين عاما والولايات المتحدة متحدة فعلا في اصرارها على ادمان الانحياز لاسرائيل والولوغ معها في فجور عدوانها وظلمها. كيف يستقيم فعل اميركا هذا مع قولها: «في الله نحن نثق»، الذي تذكّر به نفسها كلما نظر الاميركي الى الدولار؟ أيستغرب حكماء اميركا وساستها أن قلوب العرب والمسلمين «مليانة» عليها وضدها؟ ان اسنادها غير المشروط لظلم اسرائيل وعدوانها هو جمرة في نار هذه الفتنة، وكلما امتد هذا الجور وطال، تشعبت ألسنة نار الفتنة والتهبت.

وماذا عن موسكو؟ كم ألقت من حطب في نار هذه الفتنة؟ بلا حدود، فلولا استقواء الكرملين وفرضه للنظم الشيوعية بالقوة لما كانت الحرب الباردة بكل ما نتج عنها من حروب وفتن. ولو أن الكرملين لم يرسل جيوشه الى افغانستان لنصرة الانقلابيين الماركسيين، لما كان ما كان في بلاد الأفغان. لقد رأت اميركا في افغانستان فرصة منازلة مع «امبراطورية الشر»، وكان الشعب الأفغاني ومن سانده من العرب والمسلمين وقود هذه المنازلة، فكيف ردت واشنطن الجميل لمن أعانها على دحر موسكو، عدوها رقم واحد آنذاك؟ أدارت ظهرها وتركت الشعب الأفغاني للفقر والتخلف والاقتتال، فألقت في نار الفتنة حطبا من الوزن الثقيل!

وماذا عن حطبنا؟ اسألوا انظمة سحقت شعوبها طغيانا وافقارا. اسألوا قادة منظمات لم يجدوا غضاضة في بناء الدور والقصور على مرمى حجر من مخيمات القهر والفقر. اسألوا انظمة طاردت الفقير في لقمة الحلال وغضت النظر عن مليونيرات الحرام. اسألوا جماعات استبد بها الغلو فأرهقت البلاد تخريبا، واستبدت بالعباد ارهابا، وأزهقت الارواح تفجيرا، وعاثت في الارض تكفيرا. اسألوا أنظمة لم تكتف بمصادرة حقوق الناس في التعبير عن ذاتها، بل صادرت مجرد حقها في ممارسة شعائر دينها. أبعد هذا نستغرب اذ نكتوي بنار فتن شارك معظمنا في القاء الحطب في مواقدها؟

والحل؟ ربما في وقفة مع النفس لمساءلتها. أن تأتي المراجعة متأخرة خير من أن لا تأتي ابدا. هذه اميركا بوش تعرض «خارطة الطريق». نوع من المراجعة؟ ربما، ولو بدت باهتة ومتأخرة. وحتى لا يضيّع الفلسطينيون فرصة، ولو ضئيلة، كما حصل من قبل، عليهم ان يثبتوا قدرتهم على الابداع في فن المستحيل: اللعب السياسي. والأنظمة؟ يكفي ان تتأمل ما حصل في العراق وله. وماذا عن التنظيمات والحركات والجماعات؟ عليها ان تبدأ بالتغيير من ذاتها قبل ان تتصدى لمهمة تغيير غيرها. ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

[email protected]