«إعلان القاهرة» ينعش الآمال في سلام السودان ووحدته

TT

انتعشت آمال السودانيين بصورة أوسع في تحقيق السلام والمحافظة على وحدة البلاد بعد «اعلان القاهرة» الذي صدر عن قرنق والميرغني والمهدي باعتبارهم يمثلون القوى الرئيسية الشعبية في السودان، وقد حوى الاعلان تأييدا كاملا لبروتوكول «مشاكوس» الاطاري للسلام الذي وقعته الحكومة والحركة الشعبية العام الماضي، معتبرين الحل السلمي والاتفاق النهائي فرصة تاريخية نادرة للحفاظ على وحدة الشعب عبر أسس جديدة وجاذبة وفقا لما ورد في اتفاق الاطار.

لكن من ابرز ما ورد في الاعلان، ان الاقطاب الثلاثة حسموا نزاعا ما زال يستعر بين الحكومة والحركة الشعبية في المفاوضات حول وضع الخرطوم كعاصمة قومية لا تحكم بقوانين دينية كما تطالب الحركة، وترفض الحكومة، حيث نص الاعلان على «انهم يرون بأن الاتفاق على قومية العاصمة التي تساوي بين الاديان والمعتقدات كافة لهو ضرورة لازمة للحفاظ على وحدة البلاد على اسس جديدة». وهم بهذا الاتفاق قد انحازوا لوحدة البلاد التي كانت بلا أدنى شك معرضة للانقسام، لأن منطق الحركة كان يردد انه اذا استحال الاتفاق على وضع العاصمة فكيف يمكن توقع الاتفاق على وحدة كل السودان في نهاية الفترة الانتقالية؟

ولا شك ان الاتفاق حول قومية العاصمة بين هذه الاطراف الرئيسية من شأنه ان يرفع الحرج عن الحكومة الاسلامية، اذا ارادت لاتفاق السلام ان يتم في اطار وحدة البلاد، لانه ليس من مصلحتها المزايدة على المهدي الذي هو امام طائفة الانصار أو الميرغني الذي هو مرشد طائفة الختمية، وهما معاً يمثلان اكبر قاعدة دينية اسلامية في السودان، فضلا عن ان الوسطاء وكل الجيران الذين يتطلعون لسلام ووحدة السودان يرون في ما اقدم عليه الاقطاب الثلاثة يستجيب لمبدأ حقوق المساواة بين الاديان كافة والذي يعلن الجميع الالتزام به بما فيهم الحكومة في كل مواثيقهم وطروحاتهم.

ولا ينبغي ان يغيب عن البال انه ما كان للاعلان ان يسمى «اعلان القاهرة» لو كانت القاهرة بعيدة عنه، ولما كان الاجتماع اصلا قد عقد في القاهرة لو رأت ان ما سيصدر عنه قد يؤثر سلبا في علاقاتها مع الخرطوم، تلك العلاقات التي تشهد هذه الايام تطورا كبيرا خاصة بعد زيارة الرئيس مبارك اخيرا للسودان. وفي كل الاحوال فإن الخرطوم ليست اكثر تدينا من القاهرة حتى تزايد على موطن «الازهر الشريف»، بل ربما يمكننا ان نزعم ان القاهرة ساهمت في ازالة الحرج عن الحكومة من عقدة المزايدة الدينية التي اوصلت المفاوضات الى طريق مسدود حول هذه المسألة بابداء اكبر زعيمين دينيين مباركتهما لقومية العاصمة من ارض الكنانة، ومن غير المستبعد ان يكون ما حدث قد تم بتنسيق على نحو ما بين العاصمتين!

كذلك فإن «اعلان القاهرة» جمع بين المهدي وقرنق بعد خصومة امتدت لاكثر من ثلاث سنوات. وحسب علمنا فإن الميرغني لعب دورا محمودا في التواصل الذي جمع الرجلين واثمر هذا اللقاء الثلاثي، الذي يعتبر ركيزة، في توحيد رؤى كل القوى السياسية المعارضة. ولعل ابرز ما يلاحظ في الاعلان انه صيغ بعبارات ايجابية خلت من اي نقد حاد أو مبطن للحكومة، بل انه انحصر في التأمين على جوهر النقاط التي وردت في اتفاق مشاكوس، ودعا الى المشاركة الشعبية في تفعيلها والى توسيع قاعدة الاتفاق ليتم الانتقال من دولة الحزب الواحد الى دولة الوطن عبر الانتخابات النزيهة ومن خلال الخطوات التراتبية التي نص عليها اتفاق مشاكوس، لكنه حاول التركيز على كل ما هو ايجابي ومفضٍ للوحدة الطوعية التي يرتضيها كل اهل السودان، وهذا التركيز له دلالات مهمة للغاية لكون جون قرنق وهو المعني بالجنوب، يعزز من الايمان بفرضية الوحدة.

وفي الختام يؤكد الاعلان اتفاق الزعماء على التنسيق والتشاور بينهم وبين القوى السياسية الأخرى، ويزف البشرى لاهل السودان بأن سعيهم للاجماع الوطني وما يحظى به من سند شعبي وتأييد اقليمي ودولي، سوف يحقق آمال الشعب في السلام العادل والتحول الديمقراطي الحقيقي.

وفي ترجمة عملية للتنسيق والتشاور مع القوى الأخرى اعرب الناطق الرسمي باسم تجمع المعارضة: ان الوسطاء في الايقاد طالبوا التجمع باعداد رؤى محددة حول عملية السلام، وانهم يعكفون على اعدادها وبمشاركة حزب الامة وستقدم للوسطاء قبل الجولة القادمة للتفاوض، وقطعا ان مساهمة التجمع أو مشاركته سيكون لها وزن كبير واثر في الوصول الى استنباط انسب الحلول المرضية لغالب اهل السودان.

واذا كانت القوى السياسية الرئيسية ـ شمالية وجنوبية ـ قد اعادت نسيج لحمتها بتحالفها الاخير الذي انبثق عنه اعلان القاهرة، فإن القوى الجنوبية بأطيافها المختلفة التي تجتمع الآن في يوغندا بدعوة من مجالس الكنائس السودانية والاقليمية والدولية يتوقع منها، خاصة ان اجتماعاتها ستتواصل حتى نهاية الشهر، ان تدرس بعناية وتتجاوب مع ما تم في اجتماع القاهرة، خاصة حول ما يتعلق بوضع العاصمة القومية وكفالة الحقوق المتساوية لكل الاديان والالتزام بالمواثيق المتضمنة لشكل الحكم وحق تقرير المصير وعلاقة الدين بالدولة كما ورد في اعلان نيروبي 1993 ومواثيق اسمرا 1995 بطريقة تتيح الحفاظ على وحدة السودان عبر المساواة في الحقوق والواجبات الدستورية، ولا شك انها بتجاوبها المتوقع ستكون قد عززت من لملمة شتات السودانيين، خاصة المسيحيين الجنوبيين، واضافت الى بشائر السلام ما يضفي المزيد من البهجة على اولئك الإخوة الذين كانوا يخشون من اي تقول أو مساس بحقوقهم أو حرياتهم الدينية.

كذلك فإن الحكومة السودانية رحبت باعلان القاهرة وعبرت على لسان الدكتور قطبي المستشار السياسي لرئيس الجمهورية عن ارتياحها، وتمنت لو كانت قد دعيت اليه ومعها الشرائح المتحالفة معها في الحكم، ولكن لو دعيت الحكومة الى اجتماع القاهرة ترى هل كانت ستوافق وتسلم بقومية العاصمة أم ان عيونها وآذانها ستكون مفتوحة خشية من مزايدات من الجناح الآخر من الاسلاميين؟

في كل الأحوال يبدو ان على الحكومة ان تطمئن لأن المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الترابي أيد اعلان القاهرة بدون ادنى تحفظ، بل عبر عن ترحيبه حتى بانعقاد القمة الثلاثية في القاهرة، ما يعني عدم خشية الحكومة من اية مزايدات دينية حول استثناء العاصمة عن الحكم الديني مما يجعل كل الطرق سالكة امامها للانخراط في الاجماع الوطني.

ان ما يمكن استشفافه من كل مواقف الطيف السياسي انها تعبر عن آمال عراض بأن السلام آت لا محالة، وانها تتطلع الى التعاون والتفاهم عوضا عن الاجواء التي كانت سائدة ومشحونة بالتوتر والتشكك والتراشق بالكلام وبالسلاح! وفي هذه الاجواء تتضاعف الآمال بإمكانية احتواء الصراع المسلح الذي هو في بداياته الآن في الغرب، وبالمثل التخفيف من ضغوط التدخلات الخارجية، لأن توحيد رؤية السودانيين يعيدهم الى تسامحهم المجبول ويحصن استقلالهم ووحدتهم من كل تدخل!

دعونا نأمل ان يقيهم الله شرور المفاجآت الضارة وان تتسارع خطاهم لانجاز السلام والوئام وتحقيق الديمقراطية.