التقيد بقواعد السلوك الحضاري في التعامل الدولي

TT

يؤكد تاريخ الحضارة البشرية ان الانسان كان في نشأته الاولى على الكوكب الارضي اقرب الى حيوان الغاب تصرفا وسلوكا منه الى الحيوان الاليف الذي اشتهر بالانسان بعدما ابتعد عن مساحة الغاب، واقام الحواضر (حضارة) ومدّن المدن (مدنية).

والحضارة تحتضن مفهوما متعدد الابعاد من بينها البعد السياسي الذي يقوم عليه ما يسمى بالحضارة السياسية. وهي الحضارة التي يحتكم الانسان (الحيوان السياسي) الى قواعدها وضوابطها. وهي على طرفي نقيض مع شريعة الغاب التي سما عنها الانسان وتركها وراءه مُنهيا بذلك حقبته البدائية وانخراطه في عهد الازدهار الحضاري السياسي وحمولته مجموعة قيم واخلاقيات ومثل يتربى الانسان المتحضر على التقيد بها في تعامله مع الآخر: افرادا وجماعات ومجتمعات ودولا ونظما ومؤسسات دولية.

لقد ساهمت الديانات السماوية والفلسفات المذهبية، والنظريات الاخلاقية في تسريع وتيرة النقلة النوعية الرائعة التي حققت ـ عبر قرون طوال ـ الانتقال من ظلمات البدائية الى العهد الحضاري المتألق المستنير.

ويستحق القرن العشرون ان يحمل بجميع المعايير اسم قرن التحضر السياسي، خاصة بعد انشاء «عصبة (او جمعية) الامم المتحدة» سنة 1920، ومنظمة الامم المتحدة سنة 1945. ويمكن اختصار رسالتهما الحضارية في هدف تنظيم العلاقات الدولية وضبطها بقواعد السلوك الحضاري الاخلاقي. وقد جاءت المنظمتان بعد ان عرفت البشرية فشل حروب عطلت حركة السلام، وخاصة الحروب الاستعمارية التي امتدت ما يزيد على اربعة قرون وعادت فيها البشرية الى ما يشبه تحكيم قانون الغاب اي اللاقانون.

ان اقامة المنظمتين الامميتين على قواعد التنظيمات القانونية الاخلاقية، واخضاع المجتمع الدولي للتقيد بها، كانا نقلة حضارية سياسية في تاريخ البشرية، اذ بمقتضى ميثاقي المنظمتين أُقصي مبدأ اللجوء الى الحرب لفائدة الحلول السلمية التي يُفْرِز الحوارُ حولها ارضية التفاهم والتعاون بين البشر، واصبحت علاقات السلام العالمي القاعدة السائدة والحرب استثناءً منبوذا وغير مقبول. كما ان سمو القانون الدولي على القانون الوطني رجح سيادة التشريع الاممي على التشريع الخاص، لان الاول يعبر عن ارادة عالمية عليا تدين بأخلاقيات الحضارة السياسية العالمية التي اكدت على المساواة والعدل والديمقراطية وحقوق الانسان، بينما الثاني يعبر عن ارادة خاصة قد لا تكون انخرطت بالكامل تصورا وسلوكا في الحضارة السياسية الجماعية.

واذا كان العالم قد شوفي منذ سنة 1945 والى اليوم من عاهة الحرب العالمية التي عانى منها قبل انشاء هيأة الامم المتحدة، فان الفضل في ذلك عائد الى النقلة النوعية التاريخية التي وضعت حدا لعهود البدائية البشرية. وقد تمثلت جميع دول العالم في هيأة الامم المتحدة شكلا ومضمونا: اي تجمعا عالميا كبيرا ذا حمولة ثقافية اخلاقية زاخرة بالقيم الخيِّرة والمُثل الفاضلة.

وبفضل هيأة الامم المتحدة واحترام دول الغرب والشرق والشمال والجنوب على تفاوت بينها لرسالتها لم تتحول الحرب الباردة بين معسكري الغرب والشرق الى حرب ساخنة، ولم يستعمل اي معسكر في وجه الاخر سلاحه النووي، ولم يرتفع صوت واحد في ابهاء الامم المتحدة يضع هيأة الامم موضع التساؤل او الانكار، بل كان اتهام اي دولة او معسكر بالاخلال بها اكبر سُبَّة وافظع عار، لانه يعني ان المتهم يوصف بأنه لا اخلاقي وغير حضاري، اي بارتكاب الكبائر التي لا تغتفر في عهد الحضارة السياسية.

وقد لعبت المنظمات الدولية المتخصصة دورا محوريا في ترسيخ ثقافة الحضارة السياسية العالمية، ولا سيما منظمة العفو الدولي التي كانت الدول صغراها وكبراها تتهيب من حكمها على اي نظام باخلاله بحقوق الانسان. ولا تملك اية دولة حصانة من الوقوع تحت طائلة حكمها بما في ذلك الولايات المتحدة الاميريكية التي عوقبت بحرمانها من رئاسة اللجنة الدولية لحقوق الانسان، وهو ما شخص المساواة امام القانون الدولي وسمو قوته على ارادة الدول.

لكن القرن الحادي والعشرين سجل بكل اسف وقوع انقلاب على نظام السلوك الحضاري عبر ردود الفعل الانفعالية غير المدروسة التي مارستها الادارة الجمهورية الاميريكية على العالم منذ حادث 11 سبتمبر الارهابي المروع، ودخل معها العالم في عهد الفتنة والفوضى، والتنكر لمبادئ الامم المتحدة، حيث ظهر ان القطب الاعظم اعتمد سياسة التفرد بالشأن العام الدولي، وهمَّش الامم المتحدة التي ترمز الى الانتقال الى عهد التقيد بقواعد السلوك الحضاري في التعامل الدولي. ولسنا في حاجة الى تفصيل وقائع هذا الانقلاب التي اصبحت معروفة من الجميع.

وككل انقلاب، لم يظفر الانقلاب الاميريكي على الامم المتحدة بالشرعية. واثار جدالا لم ينته بعدُ من لدن الفكر السياسي العالمي وحتى من الفكر الاميريكي المتحضر. كما قوبل بانتقاد من عدة فصائل في المجتمعين السياسي والمدني في الولايات المتحدة، وكان يمكن ان يؤدي الى الاطاحة بالرئيس الاميريكي «بوش» لو انه مُني بالاخفاق في شنه الحرب على العراق.

دولة الولايات المتحدة الاميريكية لم يكتمل على ميلادها الا ما يزيد بقليل على قرنين كم هما قصيران في اعمار الامم. فهل تعتبر اميريكا من دول الحداثة التي تبحث عن نفسها وتغير تجاربها وسياستها في سعي الى الافضل؟ وبالتالي فالانقلاب الذي قامت به ادارتها الجمهورية مجرد اجتهاد لتحقيق تغيير اكثر مردودية؟

يجيب على هذا السؤال بالنفي عدد من المحللين السياسيين الاميريكيين الذين يؤمنون بان نظام بلادهم السياسي افضل النظم على الاطلاق، لان مردوديته تمثلت في التطور الهائل المذهل على جميع المستويات، والذي حول الولايات المتحدة من نظام 13 ولاية منعزلة عن العالم في مؤتمر فيلاديفيا المؤسّس الى قطب اعظم قوامه 50 ولاية، ويرى نفسه مؤهلا لقيادة العالم، بل سيادته. وليس لذلك من سبب غير المبادئ والمثل الديمقراطية التي حفل بها الدستور الاميريكي (المقدسة) وتجذرت في اعماق الشعب الاميريكي الغني بالطاقات. وايضا بفضل هجرة الادمغة التي وردت عليه من خارجه، والثروات والطاقات التي أُحسن استغلالها. لذلك كله لا يقبل الشعب الاميريكي ان يقوم ضد مبادئه اي انقلاب، وهو ما يعني انه يرفض ان تنتاب نظامه نكسةٌ ومبادئه نكبةٌ وسيَره تعثرا.

يمكن القول ان الادارة الاميريكية اخذت لحسن حظ العالم تراجع مواقفها. والرجوع الى الحق خير من التمادي في الباطل. والدولة تعظم في الاعين بقدر ما تسارع الى اصلاح اخطائها، وليس في مراجعتها لسلوكها انتقاص من عظمتها ولا مس بهيبتها.

هكذا رأينا كيف عاد البيت الابيض بعد انتصاره في العراق الى جبر الكسور التي احدثتها سياسة تفرده بالتعامل الدولي، وكيف استفاد من درس تعثر مشروع القرار الاممي الذي قدمه لمجلس الامن للحصول على ترخيص من الامم المتحدة لغزو العراق ولم يظفر منه بالشرعية، وكيف مر القرار الاخير (22 مايو ـ ايار) باجماع اعضاء مجلس الامن، لان الولايات المتحدة عادت الى الحوار وشرعت في رد الاعتبار للامم المتحدة، وقدمت تنازلات بالعشرات من التعديلات التي ادخلتها على مشروع رفع العقوبات عن العراق بما جعلت منه قرارا مقبولا بالاجماع، وفتحت حوارا معمقا مع جبهة رفض حرب العراق.

يبدو كذلك ان الولايات المتحدة ادركت انه لن يكون انتصارها في العراق كافيا لفرض احترامها بدون ان تحط ثقلها بالكامل على مشروع خريطة الطريق. فنجاحها في حرب العراق ونجاحها في حل مشكل الصراع الفلسطيني العربي الاسرائيلي يتقاطعان، ولكن بشرط ان لا تنحاز الى اسرائيل كما يُلحّ شارون عليها ان تفعل. وعليها ان تفرض على شارون التحلي بقواعد السلوك الحضاري في المفاوضات المقبلة، وان يأخذ من انفتاحها على الحوار درسا يجعله متفتحا هو الآخر في المفاوضات. وعليها ان تكون هذه المرة اكثر يقظة ووعيا بمناورات اسرائيل. وان تمارس بنزاهة دور الحارس الامين لعملية السلام الشامل العادل، حتى لا تتحول الى صفقة مغشوشة لاسرائيل فيها الغُنْم ولفلسطين والعرب الغُرْم. وهو السلام الزائف الذي لا يحل المشكل بل سيزيده تعقدا منذرا بالمخاطر.