الليبرالية أولا

TT

منذ انتهاء عصر الحرب الباردة والخطاب السياسي الاميركي يحاول إقناع العالم العربي بأن تعزيز الديمقراطية هو دواء كل علة في أنظمة دوله إضافة الى أنه المدخل الوحيد الى القرن الحادي والعشرين.

بالمطلق، قد لا يخلو هذا الطرح من الصحة. ولأن العديد من الانظمة الشرق أوسطية تخشى انكشاف «شعبيتها» أمام صناديق الاقتراع و«تنظم»، دوريا، انتخابات صورية لبرلماناتها المطيعة، اكتسب الخطاب السياسي الاميركي مصداقية ما في اوساط العديد من المثقفين العرب والمتطلعين الى تحقيق مشاركة شعبية أوسع في آلية الحكم وقراره.

مع ذلك يبقى تهديد الخطاب الاميركي للتطلعات الديمقراطية في الشرق الاوسط أكثر بكثير من ضمانته لها في أجواء التحولات السياسية ـ الايديولوجية المتسارعة حاليا والتي يبدو ان اتجاهاتها باتت مرهونة، الى مدى بعيد، بالتسوية المرتقبة لقضيتين عربيتين محوريتين: مشكلة الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية وعقدة الاحتلال الاميركي ـ البريطاني للعراق.

تجارب التاريخ أظهرت في اكثر من مناسبة واحدة أن بناء المؤسسات الديمقراطية مهمة شاقة ومعقدة فيما الاطاحة بها، خصوصا قبل اكتمالها مؤسساتيا وتراثيا، عملية بمنتهى السهولة.

وعليه، فإذا كان دعاة الديمقراطية مهتمين بنتائجها العملية أكثر من شعاراتها الآيديولوجية، فقد يكونون أكثر واقعية في خفض سقفها في العالم العربي وحصره، بادئ الامر، بتحقيق تحولات اجتماعية أقرب منالا تشكل، بدورها، الاساس الصلب لبناء الديمقراطية المنشودة.

وفي وقت تعاني فيه معظم الدول العربية من انفجار ديمغرافي ومن اشكال متنوعة من التوجهات الاصولية المتطرفة المقرونة بمشاعر الاحباط من الدبلوماسية الاميركية في المنطقة، قد يؤدي اي تطبيق متسرع للنظام الانتخابي الى تسليم الحكم «ديمقراطيا» الى التيارات المتشددة.

وإذا كانت الجزائر هي الدولة التي اختبرت عمليا قرار صناديق الاقتراع في المجيء بأكثرية أصولية الى البرلمان ان ترك لها الخيار الديمقراطي حرا، فقد يكون العراق الدولة الثانية على هذه اللائحة في حال إجراء انتخابات قريبة فيه، وخصوصا في ظل الاحتلال الاميركي.

على خلفية هذه الاحتمالات قد تكمن البداية الواقعية لأي ديمقراطية عربية الهوية في دعم واشنطن للانظمة «الليبرالية» في الشرق الاوسط بصرف النظر عن آلية الحكم فيها. اي بتعبير آخر دعم الانظمة غير الدينية التوجه (أو العلمانية حسب التعبير اللبناني)، والانظمة اللاتمييزية في سياستها التثقيفية ونظرتها الى حقوق المرأة والدول التي تتصدى للعنف الاصولي من موقع قوة، خصوصا اذا كانت دولا لا يحتمل انتماؤها للاسلام الحقيقي أي تشكيك.

حتى الآن لا تزال الادارة الاميركية غارقة في دوامة اسلوب حكم العراق وفي محاولة «تصدير» الديمقراطية اليه قبل التعرض لتهمة اتباع سياسات استعمارية الطابع تجاهه. وقد لا يكون مستبعدا ان تسفر إشكالات «التجربة والخطأ» في نهج التعامل الاميركي مع حكم العراق الى اعادة تقويم واقعي في واشنطن لما هو مستطاع وما هو صعب التحقيق اليوم في المجتمعات العربية، وربما الى بروز قناعة متجددة داخل الادارة الاميركية بأن الحفاظ على العديد من الانظمة العربية ـ التي يصفها صقور الادارة بـ«الاوتوقراطية» ـ ضمانة أفضل ليس لمصالح الولايات المتحدة فحسب بل للتمهيد لديمقراطيات أصيلة على المدى البعيد، وخيارا أسلم بكثير من السعي للاطاحة بأنظمة هذه الدول بداعي تسريع إقامة المثال الاميركي للديمقراطية في منطقة لا تبدو متحرقة عليه في ظروف أولوياتها الراهنة على الاقل.

وقديما قيل: ان شئت ان تطاع فاطلب المستطاع.