أي عضو يُبتر من جسد الأمة؟!

TT

صبيحة التفجيرات الدامية في الرياض اختتمت إحدى القنوات الفضائية العربية تقريرها المطول حول هذه التفجيرات قائلة: «لقد كشفت هذه التفجيرات مدى ارتفاع المعارضة للوجود الأمريكي ومدى المعارضة للنظام السعودي».

أي سعودي يعرف حقيقة بلده يدرك ان ما جرى هو فعلا ضد نظام الحياة السعودي. انها تفجيرات تمس استقرار ومقومات حياة كل سعودي، أما إذا كان معد التقرير يقصد بـ «النظام السعودي» الحكومة، أو الأسرة الحاكمة، فإننا ندعوه لإعادة البحث عن معان جديدة لإيصال رسالته، فدلالات المعاني التي يغرف منها لا تقابل ما في ذهنية ووجدان المواطن السعودي. وانا أتحدث هنا عن الأغلبية (الطبيعية)، أي الأغلبية التي تصالحت مع نفسها وقررت بعد معاناة طويلة وحروب اهلية ظالمة ان ترمي السلاح وتلتقي مع الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ على هدف انساني واحد هو: تأسيس دولة وبناء مجتمع انساني متكافل متراحم، يرفض العنصريات، ويحارب الاقليميات ويضع الدين بموضعه الصحيح، لإقامة العدل ولحفظ النفوس والحقوق وبالتالي ادامة الاستقرار.

هذه الأغلبية الطبيعية عندما تسمع بـ (النظام السعودي) فإنها بصورة تلقائية تجد أنها (هي) المخاطب بكل ما تحمل هذه الـ (هي) من دلالات الزمان والمكان والتاريخ والأرض والأمن والاستقرار والمستقبل، فالنظام السعودي هو (نظام حياة) يلتقي عليه الناس جميعا، وهذه خصوصية في شيء واحد مهم: خصوصية العلاقة التي تجمع الكل (الحكومة والشعب) ضد الاضرار والاخلال بمقومات الأمن الاساسية، وهذه الخاصية أو الخصوصية لها دلالاتها الكبيرة التي تقفز الى وعينا الآن ونحن نرى الخطوب والفواجع، مثل احداث التفجير في الرياض وما جره من مآسٍ انسانية عميقة، وتقفز الى وعينا عندما نرى حجم فواجع الأمهات والأرامل والشيوخ في العراق مع كل اكتشاف جديد لمقبرة جماعية وما يروى هناك عما يكتشف كل يوم عن قصص الاغتيالات والاعدامات، فالعراق تحول الى بلد القبر الكبير!

وما يكتشف في العراق الآن من تاريخ دموي هو الذي يجعل المناداة بـ (الضرب بيد من حديد) ـ كما يدعو كثيرون الآن ـ تبدو خارج اطار السياق السعودي، بل حتى تبدو مؤذية للوعي والضمير، لأن الضرب المتبادل هو الذي يؤسس لدائرة العنف، ومجتمعات قريبة منا، وبعيدة عنا ايضا، تبنت سياسة الانتقام، وكانت النتيجة هي استدامة العنف والقتل، ونحن الآن نرى مصير النظام العراقي.. كيف بدأ وكيف انتهى!

العنف في المجتمع السعودي ظاهرة طارئة لها مرجعيتها الفكرية والنفسية والاجتماعية، وعلاجها لن يكون مستحيلا لاعتبارين رئيسيين، اولهما ان المجتمع السعودي ومنذ التأسيس تبنى سياسة الاحتواء والرحمة لكل مظاهر الخروج عن الاجماع الوطني، وقد اكدت هذه المنهجية في ذهنية الحكم اهميتها وحيويتها للوحدة الوطنية، وادت الى عودة كثيرين الى ذاتهم وأهلهم وبلادهم، وكثيرون تحولوا الى رموز ايجابية في الوطنية والوفاء لبلادهم. وهذا السياق السعودي جاء عبر تراكمات التجربة الطويلة للعلاقة الايجابية بين الحكومة والناس، علاقة قوامها العفو عند المقدرة والحلم عند الغضب، هذا من جانب الحاكم، ومن جانب الناس يكون الوفاء والالتفاف حين تدلهم الخطوب.. و(العتاب) المجلل بالود والاحترام عندما تختل الاولويات ويصبح الاصلاح ضرورة. وهذه الخلطة هي التي تروض النفوس وتأخذها الى البحث عن الحلول.. لا تتصيد النواقص والقصور.

وإذا جزمنا أن العنف له خلفيته الفكرية والنفسية والاجتماعية، فهنا لن نكون ازاء حالة مستعصية على العلاج وهي بيدنا ولن تكلفنا الكثير، لأن ظاهرة العنف تتبناها فئة ضيقة تماما تعرضت لتيارات فكرية خارجية لها ادبياتها التي تخلط الدين بالسياسة لغايات دنيوية بشكل يتنافى مع الموروث العظيم للدين الاسلامي، وهذه التيارات لا يمكن التعامل معها الا بالحوار الفكري، وليس بـ(الحديد والنار) أو بـ(بترها) من جسد الأمة، والذين يدعون الى قطع العضو الفاسد، حتى يسلم الجسد، يذكرون بالأطباء الفاشلين في مستشفيات القطاعات العامة الذين يبترون الأعضاء المصابة بالجروح والدمامل، مثل مرضى السكري، إما نتيجة لجهلهم أن هذا الحل لم يعد الأخير بعدما تطورت اساليب وأدوات العلاج، اذ يعاد تأهيل الاعضاء المريضة وتحمى من البتر وقد تعود سليمة، أو لأنهم متروعو الرحمة ويفكرون بحلول الأزمات. ويبدو أن لهؤلاء الأطباء أشباههم من معلقي وسائل الإعلام ومستسهلي الكلام الذي يرون البتر هو الحل الجامع المانع.. والبتر من جسد الأمة لن يوجد الا امة معاقة تمشي على عكاز، وأجيالا مشوهة نفسيا ومشردة اجتماعيا، وتدبر الأمور يقول ان دعواهم هذه متطرفة، وتؤمن بمصادرة الآخر، وهي نموذج لدكتاتورية الفكر الذي يدعم ثقافة العنف، لأنها دعوة استفزاز وتشف و (تصفية حسابات) واستعداء على مرجعيات ومقامات.

والآن في هذه الظروف لن نحتاج الى تصفية حسابات أو قمع بيد من حديد، بل نحتاج الى آلية، أو استراتيجية لإدارة الصراع الفكري تقوم عليه مؤسسات فكرية متخصصة لأجل تحييد هذه الأقلية التي تكيفت مع ضرورة العنف، كوسيلة بديلة للنضال السلمي المدني، حتى نعمل على اعادة تشكيلها دينيا ونفسيا لكي تبقى في جسد الأمة. هذا هو الحل الحضاري والانساني.

[email protected]