إيران المحاصرة: عودة إلى اللعب بالنار؟

TT

سمعت خاتمي وخامنئي يخطبان ويتحدثان بالعربية. لم ادهش، فتعلم العربية ضروري لرجال الدين من غير العرب، لفهم روح الاسلام، ولدراسة النص المقدس والشريعة ومناهج الاجتهاد.

وبصرف النظر عن الاتهامات التاريخية للفرس بـ «الشعوبية» المعادية للثقافة العربية، فهناك حرص فارسي شديد، ولا سيما لدى رجال الدين، على تعلم العربية، واكتساب اسماء عربية واسلامية، بل الانتماء في الحسب والنسب الى آل البيت.

ولولا صدام وحربه المشؤومة، لتمكنت العربية حديثا من تحقيق توغل أكبر في صميم الثقافة الايرانية. واذكر ان الخميني عندما وصل الى الحكم اصدر امرا بتعليم العربية في المدارس الايرانية. ولا ادري ما اذا كانت الحرب قد اودت بهذا القرار الحكيم. ولعل الاذاعات والتلفزيونات العربية تستعين بمذيعين... ايرانيين، اذا تعذر عليها تقويم لغة مذيعيها الذين يدَّعون النطق بالضاد، أو بـ «الداد» حسب رأي بعض مذيعاتنا الجميلات.

كم اتمنى ان يواكب الحرص الايراني على دراسة العربية واتقانها حرص آخر على نهج سياسة أكثر صراحة وانضباطا مع العرب. لقد كفت ايران منذ وفاة الخميني عن محاولة تصدير ثورتها الى العرب، ولا سيما في الخليج، بالعنف والقوة والارهاب. وحققت العلاقة الايرانية ـ العربية تحسنا ملحوظا، بحيث يمكن القول ان علاقة الجوار والحوار بين السعودية وايران تشكل نقطة انطلاق نحو مزيد من التقارب والفهم والتعاون بين الدول العربية وهذه الدولة الاسلامية المهمة.

لكن ثمة ظواهر عديدة توحي بأن هناك ازدواجية في سياسة ايران الخارجية عموما والعربية خصوصا، هناك ثمة تناقض بين «النطق» الرسمي والممارسة العملية او الخفية. واستطيع ان احدد اربعة مجالات تثير القلق والشك لدى العرب بحقيقة وجود سياسة ايرانية صادقة يتفق ظاهرها مع باطنها وخفاياها: موقف ايران من الارهاب الديني. موقف ايران الفلسطيني. موقف ايران العراقي. نشاط ايران النووي.

اذا كان قادة «القاعدة» قد خططوا وأداروا فعلا من الاراضي الايرانية، كما يزعم الاميركيون، العملية الانتحارية الاخيرة التي جرت في العاصمة السعودية، فلا شك ان ايران تتحمل مسؤولية خطيرة. هناك المسؤولية الادبية عن عملية جرت في عاصمة عربية يتركز فيها ثقل القرار العربي السياسي، بحيث تبدو عملا اجراميا موجها لهز استقرار السعودية وأمنها، ويتناقض مع علاقة التقارب التي شهدت تطورا استراتيجيا كبيرا بين الدولتين في السنوات الاخيرة.

المشكلة ان الادارة الاميركية لا تملك مصداقية كبيرة. فلا يمكن الركون بثقة الى صحة الاتهامات الاخيرة لايران، فالهدف ربما الايقاع بين ايران والعرب وعرب الخليج بالذات. لقد صدقت تحذيرات أميركا باحتمال قيام عملية ارهابية كبيرة في الخليج، لكن لماذا لم تعلن واشنطن او تبلغ عن هذه «المكالمات القاعدية» المنطلقة من ايران قبل حدوث العملية؟

ربما كان اتفاق «الجنتلمان» الاميركي ـ الايراني الذي تم التوصل اليه فوق الروابي السويسرية حائلا دون الاعلان والاتهام آنذاك. فقد كانت اميركا ممتنة لتعهدات ايران بالتعاون في مكافحة الارهاب، وعدم التدخل في صياغة مستقبل العراق بعد الحرب.

وهكذا، يبقى الاتهام الاميركي المتجدد والنفي الايراني المتكرر معلقين بانتظار التصريح عن المعلومات السعودية. جانب من الاشكالية يكمن في ان الادب الديبلوماسي السعودي يأبى في احوال كثيرة الخوض علنا في جدل حول سياسات او ممارسات الدول الاخرى.

ايران في انكارها تقول انها ابعدت «قاعديين» لجأوا اليها بعد سقوط طالبان في افغانستان. ويضيف النفي الايراني بأن بقية «الضيوف» من القاعديين هم نزلاء السجون، فإذا صحت «المستمسكات» الهاتفية الاميركية، فهل ادار هؤلاء «القاعديون» الكبار العملية الخطيرة من خلف اسوار السجون الايرانية، بدون «علم وخبر» حراسهم المخابراتيين الساهرين؟!

التناقض بين السياسة الايرانية المعلنة والممارسة يبدو أكثر صراحة وجلاء في الموقف من التسوية السلمية الفلسطينية. ايران تقسم الايمان على ألسنة «آياتها» الرسميين بأنها ليست ضد السلام، وليست ضد التسوية اذا ما اختارها العرب والفلسطينيون، لكنها عمليا تشن حملة دعائية عنيفة ضد كل مشاريع التسوية وصولا الى «خريطة الطريق» الراهنة. وبعض هذه الحملة ينطلق من الآلة الاعلامية لـ «حزب الله» اللبناني، وهو بلا شك ذراع من اذرعة ايران العربية.

وهناك مستمسكات عربية واميركية على تمويل وتدريب ايران للمنظمات الاصولية الفلسطينية، من حيث المبدأ لا اعتراض عربيا، فالاصولية الفلسطينية، كما قلت في الثلاثاء الماضي، تعبير عن روح المقاومة العربية للاحتلال والاستيطان، لكن استحالة المشروع الاصولي الرافض للدولة الفلسطينية والحالم بدولة دينية من النهر الى البحر، من شأنه ان يجعل الرفض المطلق نوعا من المزايدة السياسية الفارغة، وتبديدا للمال والجهد والوقت على «تكتيك» انتحاري لا يخدم القضية العربية، والافضل الرهان على الحل التاريخي الذي يذوب الكيان الاسرائيلي العدواني، تماما كما ذابت واضمحلت كل الغزوات والكيانات والدول الاجنبية التي قامت على الارض العربية.

لم تتدخل ايران في العراق في ذروة الهجمة الاميركية المسلحة، مراهنة على استنزاف قوات صدام للآلة الحربية الاميركية، لكن النصر السهل فاجأ الايرانيين، بحيث بات النظام الكهنوتي الايراني يرى نفسه وحيدا بلا أي شبيه لنظام يحكمه فقط رجال دين في العالم الاسلامي، وهو عمليا وميدانيا بات محاصرا في فك كماشة اميركية تطبق عليه من كل الجهات.

ربما رأت ايران في بؤس وتعثر «الحل الديمقراطي الاميركي» في العراق فرصة ذهبية لتحريض الشيعة العراقيين على رفع شعار «الدولة الدينية» والمطالبة بالانسحاب الاميركي. التحريض ينطلق من اذاعات ايران العربية وبفصحى يحسدها عليها السادة جهلة الفصحى في الاذاعات العربية، التحريض ينطلق من الحوزات والحسينيات (المساجد) ذات العلاقة المذهبية القوية مع ايران. التحريض ينطلق من التنظيمات المسلحة العائدة الى العراق من ايران،

اكتفي هنا بالاشارة الى «آية الله» باقر الحكيم اشهر العائدين. اذا كانت ايران وراء تحريضه على رفع شعار «دولة دينية» يديرها ويلهمها الشيعة في العراق، فهو يعرف ضمنا صعوبة تحقيقها على ارض من فسيفساء دينية وعرقية. المذهل ان هذا الزعيم الديني الذي نكلت وحشية صدام بأسرته، قد اطلع خلال اقامته 23 سنة في ايران على فشل تجربة «دولة دينية» يحكمها رجال الدين وحدهم، فكيف يطالب بشبيه لها في العراق؟! وهو يعرف سلفا ان الاميركيين الذين «حرروا» الشيعة من طغيان صدام، لم يأتوا ليبصموا على مشروع ايراني لدولة دينية شيعية يحكمها «آيات» العراق.

أنتهي أخيرا عند مشروع ايران النووي، لأقول ان ثروة ايران النفطية الهائلة توفر عليها تأمين الطاقة من مفاعلات نووية باهظة التكاليف ومرهقة لاقتصاد متعثر ووضع معيشي مؤلم.

ايران تنفي علنا مشروع القنبلة النووية، كما نفت سابقا الهند وباكستان. والنفي سيستمر الى ان تتم مفاجأة العالم بالولادة القيصرية للقنبلة. ربما تعطي القنبلة شعورا بالامان لنظام الآيات، والقنبلة الشيعية لن تسبب قلقا او خوفا للعرب، بقدر ما تكون عبرة لاسرائيل بان السلاح النووي لن يكون حكرا عليها في المنطقة.

مع ذلك كله، فازدواجية النفي والممارسة ستدفع العرب ايضا الى الدخول في سباق نووي باهظ التكاليف ومرعب ومخيف في احتمالاته، اذا لم تتحقق تسوية سلمية مرحليا في المنطقة.

ايران المحاصرة ربما عادت وتعود الى اللعب بالنار في المنطقة انطلاقا من غريزة الدفاع عن النفس. وقد لا يؤدي التوتر المتفاقم الى حرب اميركية ـ ايرانية، لكن لا شك ان المنطقة العربية ستعاني من أسر حلقة جهنمية اخرى من حلقات حالة «اللاسلم واللاحرب»، حالة تستفيد منها انظمة لا تقوى على الحرب، ولا تريد السلم كيلا تدفع تكاليف التغيير، لكن عشرات ملايين العرب والايرانيين يدفعون تكاليف سياسات معقدة ومتناقضة باتت حائلا دون حرياتهم السياسية، وعبئا باهظا على تنميتهم الاقتصادية.