أميركا المستجَدَّة.. وبوش المستعرِب

TT

قبل الحرب البوشية الأولى على العراق، كانت الإدارة الأميركية، وتحديداً إدارة الرئيس جورج بوش الأب، تنتهز مناسبة انعقاد قمة عربية، والقمم زمنذاك في معظمها استثنائية، فتبعث عبر السفارات ببعض التمنيات المغلفة بالتنبيهات ينقلها سفراء اميركا في عدد من الدول العربية إلى الحكام. وكانت معظم هذه التمنيات ـ التنبيهات تدور حول ضرورة التقيد بروح السلام وعدم تصعيد وتيرة الصراع مع اسرائيل.

وفي القمة الاستثنائية التي استضافها النظام الصدّامي في بغداد يوم 28 أيار/مايو 1990، اي قبل اجتياح الكويت بشهرين وخمسة ايام، حدث تطور نوعي في طبيعة التمنيات والتنبيهات الأميركية. ذلك انه في الوقت الذي كان فيه وزراء الخارجية وصلوا الى بغداد لتهيئة جدول أعمال القمة، كانت الإدارة الأميركية أبلغت الملوك والرؤساء، ومن خلال مذكرة غير مألوفة بعثت بها إلى الأمانة العامة للجامعة العربية، بأن عليهم أن ينتبهوا إلى ما سيفعلونه في قمتهم. وجاء إقدام الحكم العراقي على نشر المذكرة صبيحة يوم الثلاثاء 22 أيار/مايو، وقبل ساعتين من بدء الاجتماع الوزاري، ليشكِّل ارتباكاً وضغطاً على رموز الدبلوماسية العربية بحيث يأتي جدول الاعمال يحقق ما يريده الحكم العراقي من القمة.

كانت المذكرة، التي لم تنشرها الادارة الأميركية، واثقة من ان العراق، او غيره من الدول العربية، لا بد سينشرها او يتولى تسريبها، وهذا يحقق للإدارة مآربها من شقين؛ شق يتعلق بإسرائيل، وجاء فيه: "نأمل ان يتفادى الزعماء خلال القمة الحماسة اللفظية المفرطة، ونحثهم بدلا من ذلك على الاهتمام بمنهج بنّاء يعزز آفاق تحرُّك حقيقي نحو السلام. كما نأمل ألاّ تُصدر القمة العربية اي بيان قد يُعتبر محاولة للوقوف ضد حق اليهود السوفيات في الهجرة او ضد مصلحة اسرائيل الاساسية في قبولهم داخل اسرائيل ذاتها...". اما الشق الثاني فيتعلق بالعراق. وفي ضوء التهديد الذي كان اطلقه الرئيس صدام حسين يوم الاثنين 2 نيسان/ ابريل وقال فيه "ان العراق سيجعل النار تأكل نصف اسرائيل اذا حاولت الاعتداء على المنشآت العسكرية الصناعية العراقية"، كاشفاً النقاب، بغرض الضغط او بغرض التباهي او بغرض الردع، عن ان العراق يمتلك السلاح الكيماوي المزدوج (النيترون) الذي يملكه الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة فقط. وقال ان الذي يضرب العراق بالاسلحة الذرية سيضربه العراق بالسلاح الكيماوي المزدوج، الذي صنعه منذ العام 1987، ولم يستخدمه ضد ايران. ومما جاء في المذكرة الأميركية حول العراق وتهديدات رئيسه: "ان الولايات المتحدة تقر بالدور الذي يضطلع به العراق، وبأنه يشكل قوة مهمة في العالم... إلاَّ اننا نعبّر عن قلقنا الشرعي من محاولات العراق خرق القوانين الأميركية، وتصريحاته غير المسؤولة في شأن استعمال الصواريخ والأسلحة الكيماوية ونقده لوجودنا السلمي في الخليج دعماً لأصدقائنا...".

لم يحدث من قبل أن خاطبت الإدارة الأميركية الحكام العرب بهذا الأسلوب. ولقد حقق نشر العراق المذكرة بعض ما يريده حيث أن البيان الختامي تضمّن فقرة جاء فيها: "إن من حق العراق والأمة العربية الرد على العدوان بالوسائل التي تراها مناسبة". وعبّر البيان عن "استياء القادة العرب من مواقف اميركا المنحازة لاسرائيل". كما شدد على "ضرورة تأمين كل اشكال الدعم الذي يكفل استمرار الانتفاضة...".

لم يتوقف الاسلوب الاميركي التنبيهي ـ التحذيري، وبات بعد الحرب الاولى على العراق يأخذ شكلاً جديداً يميل الى التلويح بالقوة. ثم جاءت العملية الترويعية المجهولة ـ المعلومة المخطط يوم 11 ايلول/ سبتمبر 2001، في كل من نيويورك وواشنطن، لتعتمد الإدارة الأميركية، في ضوء تداعياتها اسلوب الانذار الواضح الخالية مفرداته من اي تهيُّب. كما ان الإدارة تركت لعشرة من اركانها، على الأقل، امر تنويع الانذارات، بحيث يقول كل منهم ما يريده. وهكذا على سبيل المثال، كانت كونداليزا رايس تقول ما لا يقوله ديك تشيني، وكان ما يقوله كولن باول لا يقوله بقية الكواسر في الإدارة... عِلْماً بأن كل ما يقال ينطلق من الروحية نفسها القائمة على التهديد والإنذار.

ما جرى لأفغانستان وفيها، كان بمثابة تطوير اضافي للأسلوب، وبحيث ان المبعوثين من الدرجات الدنيا في الادارة باتوا لا يتورعون عن الإدلاء بتصريحات لا يأخذون فيها في الاعتبار المقامات التي لا يجوز مخاطبتها تلفزيونياً أو فضائياً أو عبر مقابلات في الصحف بالأسلوب القائم على الخشونة. وهي خشونة تزايدت وتيرتها بعد الذي انتهى اليه أمر العراق المحتل الآن، بموجب قرار صدر عن مجلس الأمن، وبايعت فيه الدول الخمس عشرة الأعضاء اميركا محتلة بصيغة الحاضنة او الوصية او المتبنية لبلاد الرافدين.

في ضوء هذا الذي اوردنا منه مجرد اشارات الى واقع حال الاسلوب الأميركي مع العرب، نتوقع ان تشكل قمة شرم الشيخ، التي أرادها الرئيس بوش أسلوباً جديداً في إبلاغ التمنيات والتنبيهات، منعطفاً في تاريخ التعامل الأميركي ـ العربي، بحيث لا داعي، بعد الآن، لمذكرات يتم ارسالها وتحذيرات وتنبيهات يتم توجيهها.. خصوصاً ان الانظمة العربية باتت اكثر واقعية وإقراراً بالتغيير العاصف الذي بات عليه العالم الواقع تحت السيطرة الأميركية. كما ان ما كان يزعج المسؤولين الأميركان من مواقف تتسم بالتشدد، اندثر نسبياً في ضوء ما حدث للعراق وفيه.

وأما ما يتعلق بـ"الحماسة اللفظية" التي طلبت ادارة بوش الأب من القادة العرب، الذين اجتمعوا في مؤتمر تاريخي في بغداد يوم 28 ايار/مايو 1990 تفاديها، "والاهتمام بمنهج بنّاء يعزز آفاق تحرُّك حقيقي نحو السلام"، فإنها باتت، في ظل إدارة بوش الابن المستعرِب، من إرث الماضي الذي غابت شمسه بغروب شمس النظام الصدّامي. وهكذا فإن القمتين بدل القمة الواحدة، التي استضاف الرئيس بوش بعض القادة العرب إلى عقدهما في ديارهم، انعقدتا في ظل أجواء "لا حماسة فيها ولا هم يحزنون او... يفرحون". وهما قمتا التأسيس لعصر أميركي ـ عربي جديد لا يضير اميركا ولا يضر العرب، ويعود على اسرائيل بالنفع الكثير مقابل القليل القليل من النفع للفلسطينيين... أعانهم الله وزادهم صبرا.