ذلك هو الفارق

TT

كان لبنان، قبل استقلال الكويت، اصغر دولة عضو في الجامعة. وكانت مساحته، حراً او محتلاً، لا تزال بين اصغر الاوطان على خريطة العالم. لكنه شق طريقه بين الصفوف، بسبب بضع شجرات لا تشكل غابة، وبسبب غابة من الكلمات الجميلة في الشعر والنثر والغناء. وللاختصار يمكن القول ان لبنان كلمة، وليس جغرافية ولا تاريخا. فهو في الجغرافيا جسر صغير، وفي التاريخ ممر ضيق. لكن هذا البلد الصغير يشبه مغني الاوبرا، له حنجرة يتعدى صداها وديانه وجباله. لقد اتقن التعبير عن نفسه وعن الآخرين معاً. وجعل من الكلمة كتاباً وصحيفة واغنية ومدرسة. وحتى في السياسة اعطى الكلمة سدة العرش. وكان الفاشلون (وليس الناجحين) بين طالبي المقعد الانتخابي رجالا مثل سعيد عقل او امين نخلة او الاخطل الصغير او غسان تويني او سعيد فريحه. فقط على سبيل المثال. وكان بين سياسييه كنوز ثقافية مثل كمال جنبلاط. وفي برلمانه خطباء من طراز بهيج تقي الدين.

وفي عقد الستينات كان لا يزال على قيد الحياة جيل طويل من الذين ساهموا في تأسيس الصحافة في مصر او في تأسيس العمل السياسي والاداري الاستقلالي في العراق وسوريا والاردن.

بلد صغير عرف حجمه فأدرك ان ثروته الوحيدة في الحرف، وصاريته الوحيدة الكلمة والفكر وما يلزمهما من حرية وتقدم. ولذلك كان الطقم السياسي، في معظمه، مرغماً على أن يرتقي بنفسه الى مستوى علة وجود لبنان. اي الكلمة. وكان البرلمان النيابي، قبل اي شيء، منبراً ومنتدى وسوق عكاظ. وكان سفراء لبنان الى الخارج يتقنون ارقى الكلام ويحاولون ارقى الثقافة ويسعون في سبيل ارقى الفكر. وكانوا يعرفون ان لا مبرر لمهنتهم ولا مبرر لوجود بلدهم الصغير سوى هذا التفوق البسيط في عالم الكلمات وبستان اللغات.

ثم جاءت الحرب. وصار المقياس اللغوي في الاستعلاء والتهديد والاذلال. وظل في لبنان من يعرف الكلمة وتعرفه من السياسيين، لكن غلب على الساحة الببغاءات والغربان فيما آثرت الحساسين والمنارات الصمت الكريم. وطغى على ادب المخاطبة مرددون وقوالون رتيبون مملون غير مبدعين ويبعثون على السأم الشديد. وصار اللبنانيون يغيرون ويقلبون المحطات او الصفحات بمجرد ان يلمحوا اسماً من تلك الأسماء السمجة التي خنقت اللغة وداست على لمعات الفكر ورفست جماليات الحرف، وهي تسعى الى السلطة او المال او بحر الفساد والتزلف والتزلم والزحف على البطون. وكان الساخر الراحل سعيد تقي الدين قد ابتدع لهؤلاء من الاشتقاق والادغام كلمة «الزحفطونيين».

كثيرون منا لم يعودوا يحبون وطنهم بسبب رفوف التقريف واسراب القرف. واصبحت معظم السياسة مثل الطناجر الفارغة التي ظنت نفسها صناجات وكمنجات. وانا شخصيا هربت الى الصمت. واغلقت المحطات. واخذت اقرأ الصحف بالاصابع القلابة. وخيل لي ان لبنان الكلمة الذي احببته وعرفته واعتبرته حقاً وطني، ذهب ولن يعود.

يوم الجمعة الماضي قرأت نص الخطاب الذي القاه وزير خارجية لبنان جان عبيد امام «منظمة المؤتمر الاسلامي» في طهران. ثم قرأته مرة اخرى. وقد شعرت ان الكلمة قد عادت الى لبنان. وان ذلك الخطاب السياسي العاطر الذي اعتقدناه غاب دون عودة، عاد مع جان عبيد. ووصف رئيس الوفد الليبي خطاب الوزير اللبناني بالقول «انه افضل خطاب مسلم سمعته في المؤتمر» فرد عبيد قائلا بل «افضل خطاب مؤمن».

يقول عبيد، في جملة ما يقول: «اننا لا بدَّ ان نلوذ بايماننا وثباتنا وتضامننا، عرباً مع عرب، وعرباً مع مسلمين، ومسلمين مع مؤمنين بالحق والعدل في هذه الدنيا، بمعزل عن اللون والعرق والدين والقومية، ويفضي بنا ذلك الى انه لن يكون سلام على الكوكب ما لم يكن هناك عدل، ومعيار دولي شرعي واحد للعدل، لا معايير مختلفة ومتناقضة، ولن يكون سلام في هذا الجزء الحساس من العالم العربي والاسلامي اذا لم تسقط سياسة المعاير المزدوجة المخلة بالامن والعدل وحقوق الدول والجماعات. فلا يبقى هناك معيار للضعفاء او المستضعفين، وآخر للاقوياء وعلى رأسهم اسرائيل، ومن يحتضن او تتحصن به اسرائيل» اقرأوا النص. فان اي اجتزاء ظلم لكليته.