الديمقراطية كآخر مستورد عظيم من الغرب

TT

بينما يتساءل كثيرون في الشرق الأوسط: «من التالي؟» فإن السؤال الحقيقي هو: ماذا بعد؟

أداة الاستفهام «ماذا» في السؤال، تشير إلى الفكرة العظيمة التي ستكون بمثابة المنشأ لفكر سياسي جديد لتحريك طاقاتنا، ولإخراجنا من مأزقنا التاريخي، وتحويل مجتمعاتنا إلى مجتمعات تصنع التاريخ بدلاً من أن تكون موضوعاً له.

وقبل أن أبدأ في تأمل ما قد تكونه هذه الفكرة الجديدة العظيمة، دعونا نستعيد بعض مثيلاتها السالفات.

علينا أن نبدأ من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حتى لو كان ذلك لعدم وجود أقطار عربية مستقلة قبل ذلك، بينما كانت تركيا وإيران إمبراطوريات تحتضر ولا تملك غير قدر ضئيل من السيطرة على مصيرها.

كانت الفكرة العظيمة الأولى التي أتت إلينا من الغرب، هي إنشاء دولة قوية تتمتع بجيش متأهب وبيروقراطية حديثة، وفي حالتي تركيا وإيران تبني ارتداء ملابس أوربية، على الأقل في أوساط النخبة. وقد رافق ذلك كله بعض رموز عملية التصنيع الأوربية، مثل خطوط السكك الحديدية والتلغراف، وفي حالة طهران واسطنبول والقاهرة بناء دور للأوبرا.

إن الرجل الأكثر مسؤولية في جلب تلك الفكرة العظيمة إلينا، كان جمال الدين (الذي تخفى تحت اسم الأفغاني).

أما الشيء الذي لم يدركه الافغاني، فهو أن النموذج الغربي كان ثمرة لقرون من التطور الذي حدد فيه الأوربيون هويتهم الوطنية، ثم أنشأوا، بعد ذلك، دولاً حديثة للتعبير عنها. أما في حالنا، فإننا وضعنا العربة أمام الحصان إذ أنشأنا الدولة أولاً ثم بحثنا بعد ذلك لها عن أمة.

ولقد تبين لنا، سريعاً، أن الدول «القوية» التي أنشأناها ليست قوية بالصورة التي تكفي لصد هجوم القوى الغربية.

اعترف بعض قادتنا بأن دولة لا تتأسس على أمة، لا تزيد كثيراً عن أن تكون قطعة ديكور.

وقد قادهم تحليلهم لاستيراد فكرة أخرى من الغرب، هي الامة. وكان عرابي باشا في مصر وأتاتورك في تركيا ورضا شاه في إيران وراشد علي جيلاني في العراق، من بين الذين مثلوا التوجه الجديد. وهم أيضاً قد لازمهم الفشل، إذ أنه لا توجد أمم على النمط الأوربي في الشرق الأوسط (أقطارنا كانت بقايا إثنيات متعددة لإمبراطوريات محطمة).

وهؤلاء الذين أدركوا أنه لا توجد امة في الشرق الأوسط تستطيع وحدها مواجهة تحديات عالم يسيطر عليه الغرب، بدأوا يناصرون فكرة مستوردة أخرى من أوربا وهي الفكرة القومية.

لقد طور كل من زكي الارسوزي وعلي نصر الدين وفاتح الحصري فكرة القومية العربية. وقد دفع الشباب الأتراك بقضية القومية التركية إلى الأمام. وقد روج كاظم زاده إيرانشهر وأحمد كسرفال للقومية الإيرانية.

عندما انتهت الأفكار القومية المختلفة أيضاً إلى كارثة، على المستويين الفكري والعملي، تم استيراد فكرة أخرى من الغرب وهي: الاشتراكية. ومع منتصف الستينات كانت كل أنواع اليسار الغربية، من الماركسية اللينينية إلى الكاستروية والماويّة، قد طرحت في المنطقة جنباً إلى جنب مع هجين متنوع مثل الاشتراكية العربية والبعثية.

لقد حصل الهجين اليساري على السلطة في عدد من الدول العربية مثل سوريا ومصر والعراق. وقد استولى الشيوعيون على السلطة في اليمن الجنوبي.

وفي أقطار أخرى مارس اليسار، رغم انه ليس في السلطة، تأثيراً ثقافياً هائلاً مستخدماً ذلك في أحيان كثيرة لفرض إرهاب ستاليني ضد الكتاب غير اليساريين. (ففي إيران، على سبيل المثال، تعرض بعض أعظم الشعراء المعاصرين للحط من قدرهم بواسطة الستالينيين، لدرجة أن قلة هي التي استطاعت قراءة أعمالهم حتى موت اليسار في التسعينات). ومنذ الستينات تم استيراد فكرة أخرى من الغرب إلى المنطقة هي الإسلاموية.

وطالما أن الإسلام قد نشأ في الجزيرة العربية، فإن اقتراح أن تأتي الإسلاموية من الغرب قد يبدو متناقضاً. لكن ذلك ليس صحيحاً، فتحويل الدين إلى آيديولوجيا سياسية يعتبر فكرة غربية.

يعتقد الإسلامويون أن اغلبية المسلمين لم يعودوا «مسلمين حقيقيين»، ويجب إعادة صياغتهم في أتون الثورة. وهذه فكرة فاشية أصيلة كغيرها من الأفكار الفاشية التي تحول الفرد إلى صفر، بينما تضع الأمة، التي تعتبر محض تجريد، في قلب الأشياء.

إن أكثر الدعاة المعروفين للإسلاموية مثل الخميني وقطب والمودودي هم، على نحو مباشر أحياناً وغير مباشر أحيان أخرى، أكثر تأثراً بالأيديولوجيات الشمولية الغربية من تأثرهم بالفكر الإسلامي الكلاسيكي. وهم أقرب إلى هوبيس ومايستر وهيجل من الفارابي ونظام الملك وابن خلدون.

إن كل آيديولوجياتنا التي استوردناها خلال الـ150 عاماً الماضية قد فشلت. وقد تفجرت فكرة «الدولة القوية» حينما وضع اسم شاه إيران عام 1921 على جدول الرواتب البريطاني ليتقاضى 5 آلاف جنيه إسترليني، بينما سلطان الخلافة العثمانية التي اعتبرت «رجل أوربا المريض» قبل ذلك بعشرات السنين، كان يعد حقائبه للتوجه للمنفى بعد أن فقد إمبراطوريته.

لقد فشلت القومية عندما انهارت خطة جيلاني الانتحارية. وقد اجبر رضا شاه على الذهاب إلى المنفى، كما فر مصدق عبر سلم إلى حديقة جاره وهو ما يزال في بيجامته، ومات عبد الناصر بقلب كسير بعد أن قاد المصريين إلى أكبر هزيمة باسم الشرف العربي، وهرب صدام حسين، كما يقال، بعد أخذ جزء من أموال البنك المركزي العراقي معه. ولم يكن اليساريون أفضل من ذلك. ففي إيران صاروا جواسيس وعناصر تعذيب لنظام الخميني. وفي العراق لعبوا دوراً ثانوياً لصدام. وفي اليمن الجنوبي هربوا إلى عمان بعد أن اختطفوا تاكسيات في حضرموت تحت التهديد بالقتل.

وهل يحتاج المرء ليتذكر السجل الكوارثي للإسلاموية من ضياء الحق إلى الخميني مروراً بالتراجيديا السودانية؟. وماذا عن طالبان الذين ربما تكون مساهمتهم في تاريخ العار هي تحطيم تماثيل باميان لبوذا؟

إن أفكار بناء الدولة والامة والقومية واليسارية والإسلاموية كلها أفكار استوردت من الغرب، وتم تحويرها حتى لم تعد تعرف. وساهمت كل منها في تدمير حياتنا على طريقتها الخاصة قبل أن نتبين مدى خطورتها على عافيتنا.

إذن ماذا ستكون الفكرة العظيمة التالية التي سنستوردها من الغرب؟

إنها الديموقراطية، وهناك سلفاً محاولات تحوير معرفتها بتقليصها لمجرد اجراء انتخابي. لا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية دون انتخابات لكن يمكن أن تكون هناك انتخابات دون ديموقراطية.

وفجأة، فإن إيران، حيث كل المرشحين يجب أن يحصلوا على موافقة الملالي، وحيث يتم تجاهل قرارات البرلمان المنتخب، صارت توصف في واشنطن بأنها «ديموقراطية». وفي بعض دول الخليج الصغيرة استخدمت انتخابات حفلت بالتلاعب لنيل المزيد من السلطة للنخبة الحاكمة، أو حصلت على الثناء بوصفها «ديموقراطيات عربية جديدة».

وبسبب تقاليدنا في المحاكاة فإن الاجراء الانتخابي، من نوع أو آخر، يبدو أنه سينتشر في معظم أرجاء المنطقة خلال عشر سنوات. وسنصير جميعاً «ديموقراطيين»، مثلما كنا في أوقات اخرى من مؤيدي بناء الدولة أو قوميين أو يساريين من نوع أو آخر. وستثبت ديموقراطيتنا أنها مزيفة مثل ما استوردناه من قبل من أفكار.

إذا لم نتعلم من دروس الماضي، فإن الفكرة العظيمة المستوردة التالية سيكون مصيرها الفشل أيضاً.

والأسباب هي أننا مرة أخرى نضع العربة أمام الحصان.

إن الديموقراطية لا تبدأ بالانتخابات. إنها تبدأ بحرية الفكر والتعبير. إنها تبدأ بالحركات التي تنبع من القواعد والجذور ومن الأندية والروابط والاتحادات وأخيراً من الأحزاب السياسية.

لقد ظللنا خلال 150 عاماً نتصرف كممثلين يتعلمون جزءاً ويقومون بأدائه على طريقتنا، ولكن في النهاية نعود إلى ذواتنا الحقيقية.

أليس هذا تشاؤماً كبيراً؟

نعم، يمكن للمرء أن يقول إن المتشائم هو متفائل مطلع.