أمريكا العراقية والأحزان الحقيقية

TT

ما هو الحجم الحقيقي للشريحة التي تعتبر القوات الأمريكية قوة احتلال يدعو الواجب الوطني والقومي الى خوض حرب تحرير مقدسة لطردها؟ وما هو كذلك، حجم الشريحة التي تعتبر ما حدث في نيسان الماضي دينا أمريكيا في رقاب العراقيين، وربما العرب، ينبغي تسديده عاجلا وآجلا كذلك؟

فالمؤكد لحد الآن، وربما لفترة طويلة قادمة، عدم وجود وسيلة لقياس الرأي العام العراقي. غير أن من يشاهد بعض الفضائيات العربية، التي لا تنقل سوى تظاهرات المئات وربما الآلاف من العراقيين التي تدعو الى حمل السلاح لمقاتلة الأمريكيين، يعتقد بأن هذا هو رأي جميع العراقيين. أليس الأكثر مهنية وموضوعية بالنسبة لتلك الفضائيات أن تضيف الى أخبارها تلك عبارة توضيحية تقول، إن المراقب المحايد لم يتمكن من معرفة حقيقة رأي العراقيين في المحافظات والمدن والشوارع العراقية الأخرى؟ لكأن تلك الفضائيات تتعمد تحريض بعض العراقيين على بعضهم الآخر، على سرقة إرادته وقراره وحقه في تقرير مصير وطنه ومستقبل أجياله القادمة. ألا يمكن أن تكون تلك الملايين ترى في وجود القوات الأمريكية أمرا واقعا تدعو الحكمة الى التعامل معه بواقعية، ومحاولة الاستفادة منه لإعادة إعمار ما دمرته الحرب الأخيرة على الأقل، إن لم نقل تعويض العراق عن سنوات التدمير والخراب والحصار والعزلة والخوف والعبودية، وإقامة نظام سياسي جديد يوفر العدالة والتعددية والديمقراطية؟ فهل هناك قوة عربية أو دولية أخرى تملك القدرة على أن تفعل ما تستطيع الولايات المتحدة فعله لمساعدة الشعب العراقي على التخلص من بعض الديون الهائلة والتعويضات التي راكمها الديكتاتور على عاتق اقتصاده المنهار، ناهيك عن إقناع الصناديق والمؤسسات المالية الدولية بمنح العراق ديونا جديدة لإعادة تأهيل اقتصاده وإعادة بناء مؤسساته وتنمية مرافقه الحياتية؟

من اللازم أن يعترف العرب، وليس العراقيون وحدهم، بأن الوسيلة الوحيدة لإخراج القوات الأمريكية من الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وامتلاك الشعب العراقي مقاليد أموره الوطنية كاملة، هي تفاهم القوى والأحزاب والمنظمات والشخصيات المستقلة على صيغة موحدة لمواجهة استحقاقات الوجود الأمريكي المسلح في العراق، ومحاولة الحد الى أقصى مدى ممكن من سعة وعمق الانتشار الأمريكي في تفاصيل الشؤون الداخلية العراقية.

لم يكن الكثيرون من العرب يصدقون المعارضة العراقية حين كانت تحدثهم عن المقابر الجماعية والسجون المخفية تحت الارض، أو عن عمليات السرقة المنظمة التي تقوم بها أسرة الديكتاتور للملايين والمليارات من ثروات الوطن وأمواله. وقد نجد لبعضهم الكثير من العذر في عدم التصديق، لأن المعارضة لم تكن قادرة على تقديم الأدلة المادية القاطعة على تلك الجرائم والانتهاكات. لكنهم اليوم لا يملكون أدنى مبرر مقبول بعد أن تكشفت الحقائق وظهرت المقابر الجماعية والملايين من الدولارت المسروقة والآلاف من الوثائق التي تفضح النظام.

ومن الحقائق التي لا مجال الى إنكارها أن صدام تمكن من رشوة دول ومؤسسات وشخصيات عربية وعالمية مهمة، الأمر الذي جعل تحرير الشعب العراقي من كابوسه ضربا من الخيال، خصوصا أن دولا كبرى مثل روسيا وفرنسا والمانيا وغيرها كانت مصرة على أن تفعل الأعاجيب للدفاع عن الظلم والهمجية وإنقاذ رقبة الجلاد من القصاص، حتى أصبح أمل العراقيين في التحرر من كابوس النظام حبلا من هواء، ولم يعد على الكرة الارضية كلها قوة يمكن ان ترفع عن كاهل العراقيين ذلك الكابوس سوى الولايات المتحدة، بجبروت جيشها وطائراتها وبوارجها ودباباتها وأقمارها الصناعية. وقد فعلت ذلك رغم إصرار فرنسا وروسيا وألمانيا على عدم إعطاء عملية تحرير الشعب العراقي غطاءً دوليا من مجلس الأمن الدولي.

ويعلم العراقيون قبل غيرهم أن حزمة من المنافع والمصالح، القريبة والبعيدة، هي التي حملت أمريكا على عبور المحيطات لإسقاط النظام في العراق. وعليه فهي لن تخرج منه إلا بالثمن الذي جاءت من أجله، مهما قال البعض من العراقيين، ومهما فعلت حكومات وفضائيات الدول المتضررة من أمريكا العراقية. لكن ولحد الآن، لم يتمكن أحد في العراق وفي خارجه، من أن يحدد تلك المنافع والمصالح بدقة. لكنها في تقدير البعض من المحللين والمراقبين العرب والأمريكيين والأوربيين لن تتعدى ما هو موجود في دول عربية وغير عربية عديدة في المنطقة، مثل القواعد أو الاتفاقات والعقود الاقتصادية. وقد يكون منها، بل أهمها، إقامة نظام سياسي ليبرالي ديمقراطي تعددي فيدرالي، يمنع الديكتاتورية من التسلل مجددا، ويضع نهاية مؤكدة لتدفق المال والسلاح والخبرة من العراق الى منظمات تعتبرها واشنطن إرهابية تعمل على إلحاق الضرر بمواطنيها ومصالحها العليا. وليس عيبا أن نعترف بأن مصالح الأمريكيين، في هذا الجزء على الاقل، تلتقي مع تطلعات الغالبية العظمى الى تعويض المواطن عن سنوات الديكتاتورية بعراق عادل يتمتع فيه الجميع بحقوق المواطنة بالتساوي.

من هذه الزاوية يتوجب على العراقيين عدم الجنوح الى المبالغة في الوطنية باعتماد سياسة الانتحار الجماعي. فحمل السلاح، وهو سلاح تافه بمواجهة السلاح الأمريكي، لن يؤدي إلا الى تعقيد العلاقة مع الأمريكيين، وحملهم على تجاهل المصالح الوطنية العراقية، والتصرف الحر المنطلق وغير المقيد وغير المحدود بشؤون العراق الوطنية.

إن الذي يبدو منطقيا وعمليا في المرحلة الراهنة هو اتفاق العراقيين على وحدة النظرة الى الوجود الأمريكي العسكري الحالي ومحاولة الاستفادة منه، على الأقل لمنع تدخلات الدول والقوى الخارجية الإقليمية والدولية، وإعادة إعمار الوطن، وتوفير الفرص الضرورية لكي يعالج المريض ويشبع الجائع ويأمن الخائف. ولن يتحقق ذلك إلا حين يمتلك العراقيون مقاليد السلطة المؤقتة والدائمة. ولنا أمثلة على أن الوجود العسكري الأمريكي لا يمنع من ممارسة حق الاعتراض، او حتى مشاكسة الأمريكيين. فهل يتوقف البعض من العراقيين والعرب عن الدعوة، لا الى إبقاء الخراب على حاله فقط بل الى تخريب ما لم يخربه النظام وقوات الحلفاء بعد؟

* كاتب عراقي