قانون الهجرة والعودة

TT

إن التأمل الكوني مفيد. والسياق التاريخي يسعف في فهم المرحلة التاريخية التي يمر بها مجتمع ما لكي نخرج من قبضة «التشاؤم والتفاؤل»، كما انتبه إلى ذلك ابن خلدون حينما رأى التشيخ والانحطاط الكوني يلف بقبضته سماوات العالم الإسلامي. وكما انتبه لينين إلى جموع الفقراء الفوضوية في شوارع بطرسبورغ فأدرك بحدس لم يخب أنها لحظة انفجار الثورة. ولا أحد يعلم ماذا تخبئ الليالي للشارع العربي المحتقن؟ ولكن قانون الثورة أنها لا تنفجر بالظلم أو الفقر، فلقد عاشت أمم لا حصر لها أحقابا متطاولة وهي تزدرد الذل يوميا وتساق بالسوط. وحكمتها أسر شتى. فحكم آل رومانوف ثلاثة قرون، ودام حكم المماليك خمسة قرون. وحكم شعوبا عظيمة صعاليك أو مجانين مثل الحاكم بأمر الله الفاطمي، الذي اصدر أمره بإعدام كلاب القاهرة فقتل في يوم واحد ثلاثين ألف كلب في مذبحة عارمة. أو قراقوش الذي وصف حكمه الكتاب الكوميدي «الفافوش في أحكام قراقوش». حتى جاء من أعطى الجماهير «وعي الثورة». فـ«وعي» الفقر أهم من «الفقر» كما يشير إلى ذلك عالم الاجتماع العراقي «علي الوردي».

إن السياق التاريخي يفتح أعيننا على حقائق مبشرة فالذين فروا من ضيق أوروبا وتعصبها إلى سعة أمريكا وحريتها، هم الذين محوا أوروبا من الخريطة السياسية كقوة أولى. واليوم تستوعب أوروبا الدرس وتبني نفسها بحرية وبدون تعصب على النموذج الأمريكي. وتبنى «الولايات المتحدة الأوربية»، ويحلق «اليورو» إلى الغمام، ليس على أساس ألمانيا فوق الجميع بل ألمانيا مثل الجميع. ولم يوحدها هذه المرة مدافع نابليون أو مدرعات هتلر، بل يتحدون بكلمة السواء فلا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله. وهي تجربة بشرية تمر أمام أعيننا ونحن عنها معرضون.

ويخبرنا التاريخ أن بوذا هرب من نيبال إلى الصين فانتشرت دعوته بأفضل وأوسع. كما أن رحلة ماو تسي تونغ إلى ذرى الجبال في شمال الصين في رحلة سبعة آلاف كيلومتر وموت 97% ممن كان معه غيرت مصير الصين. وهجرة حواريي المسيح قلبت مصير روما. ومن هروب علماء القسطنطينية بعد اجتياح العثمانيين القسطنطينية زرعت بذور النهضة الأوربية. أما نزوح (الهوجنوت) البروتستانت الفرنسيين من الاضطهاد الديني إلى ألمانيا فدفع الرأسمالية الحديثة إلى الظهور، كما قرر ذلك عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) في كتابه (روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية)، فحيث وجد البروتستانت ظهرت المصانع ونشط العمل وقوي الكسب وتحررت روح المبادرة. واليوم تمسك أمريكا بالعالم، ومن يمسك أمريكا هم البروتستانت البيض (الواسب wasp) وليس اليهود.

أما لينين فهاجر إلى أوربا ثم عاد بقطار ألماني مغلق إلى روسيا، وكان سببا في إطلاق ديناصور الشيوعية إلى الغابة الرأسمالية، مثل فيلم «جوراسيك بارك». واليوم تلقى تماثيل لينين في مستودعات البلى.

والقرآن يذكر أن الهجرة تفضي إلى «السعة» وإلى شيء آخر اختلف حول معناه المفسرون (مراغما كثيرا) وهو مذكور قبل (السعة) فما هو المراغم؟

إن الناس تهاجر عندما تصبح الحياة لا تطاق. والبدو يرتحلون عندما تضن الأرض بخيراتها. وتطير الطيور حيث الحب الهضيم، بعيدا عن الصيادين. ويفر البشر إلى مواطن الحرية. ويطير المال حيث الأمان والاستقرار السياسي. وتطير العقول حيث تجد الإمكانيات والتشجيع، ولم يكن لأحمد زويل أن يأخذ جائزة نوبل في تحطيم وحدة الزمن، لو بقي يقوم بتجاربه في صعيد مصر أو مخابر القاهرة. فهذه قوانين مثل الانحلال والتفاعل في الكيمياء وتوازن الحموضة والقلوية في الفيزيولوجيا.

وعندما أسمع في محطة فضائية من مفكر أنه يتعجب كيف أن بوش يأخذ أوامره من اللوبي الصهيوني، وأن هذا عيب لا يليق برئيس دولة كبيرة، فأنا أتعجب من تعجبه لأنه أمي في القوانين الاجتماعية، ولأن بوش لا يتلقى الأوامر بل يعطيها. ولأن مفكرنا العربي ما زال يعيش عصر الفقيه الحصفكي. والعيب ليس في الفقيه ولكن في نكوص مفكرنا إلى غير عصره. فذلك عاش عصره وصديقنا غائب عنه.

يبدو أن الشعوب العربية مصابة بمرض عضال اسمه «فقد قدرة تقرير المصير». ولما تحدث أوسفالد شبنجلر في كتابه «أفول الغرب» عن الألوية الرومانية التي استولت على مقدرات العالم القديم، على الرغم من سوء تسليحها وتدريبها، قال: «إنها كانت غنائم وأسلاباً جاهزة لأي مغامر». وأمريكا تفعل اليوم ما فعلته روما من قبل. أي أن مشكلة الانحطاط الداخلي هي التي تؤهب لقدوم اليانكي وسطوة إسرائيل.

والآن تولد دولة فلسطينية بمقاييس الاستخبارات الأمريكية، ليولد جنين مشوه كما ولدت دول عربية من قبل بأخطاء ولادية فاحشة، مثل المنغولية وخلع الكتف والاختناق بنقص الأكسجين، على يد قابلات من الأطلنطي بأسماء مثل سايكس وبيكو وتنيت وبخرائط من نموذج «خارطة الطريق».

هل هناك أمل في بحر الظلمات هذا؟

في تقديري نعم، ومن ثلاث جهات غير متوقعة، (اولا) أن قانون التاريخ يقضي بأن الزبد يذهب جفاء وما ينفع الناس يمكث في الأرض. هكذا هلكت النازية ودمرت الفاشية وماتت الشيوعية بين أهلها وهم يلطمون الخدود ويشقون الجيوب من الشيوعيين الصارمين. وما هي من الظالمين ببعيد.

وأوضاع العالم العربي هي مثل جثة سليمان الميتة وما تحتاجه هو دابة الأرض التي تأكل منسأته كي يخر فيتبين لجماهير الشعب العربي أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.

(ثانياً)، أن قانون «الصلاح والفساد» ينص على أن الصالحين يرثون الأرض. «ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون». والصالحون ليسوا المنتسبين للثقافة الإسلامية فحسب، بل هم من صلح لتولي المهمة. واليابانيون اليوم «أصلح» من العرب. ولم يكن للألمان أن يحققوا فوزا خرافياً ضد فرق رياضية شتى لولا طبيعة التراص الداخلي. إنها الحرب الصاعقة التي شنتها مدرعات غودريان في الجبهة الفرنسية وهي هنا على أرض الملعب ليس بدبابة ومدفع بل ساق وكرة.

وما يفرق الماس عن الكربون هو طبيعة تراص ذرات الكربون الداخلية وهندستها الخاصة.

أما القانون (الثالث) فهو مشتق من كلمة «المراغم» فالجالية العربية الإسلامية المهاجرة، ما زال خطيبها في مسجد مونتريال يخطب الخطب العدوانية العنصرية ويستدعي ما يثير الحروب في الأرض ويثير حربا بلاغية حول جسد المرأة، أقرب إلى حديث السحرة، مذكرا بخطيب عصر المماليك البرجية. ولكن بقية الأجيال تنتقل تدريجيا إلى المعاصرة على الرغم من غيظ الأهل أن أخلاق الأولاد تبدلت. وهي ليست كذلك بل «الأولاد» كسروا شرنقة التقليد إلى فضاء العصر. ومن صلب الحاليين سيخرج جيل «مرغماً» وكاسرا لإرادة الجبارين في الشرق، بشكل او آخر من الضغوط، ومن خلال ثورة الاتصالات والإعلام والمعلومات التي كسرت الجغرافيا. ومعها نسفت الرقابة نسفا. على الرغم من حسرة رجال الأمن وهم يقلبون أيديهم على ما أنفقوا من أحكام إغلاق عقل المواطن.

وبهذه الحركة سوف يخرج المجتمع من ليل التاريخ، وتعود الحياة لمواطن ودع الحياة منذ أيام كافور الاخشيدي. وينهض المجتمع من حضن فقهاء العصر المملوكي الذين حولوا الدين إلى مسألة تطويل اللحية ولباس المرأة.

قانون «العودة» هذا يطبقه سمك السلمون فيرجع بعد قطعه مسافة عشرة آلاف كيلومتر من المحيط إلى النهر وعكس التيار محاطاً بالدببة المفترسة الكندية على طول الشطآن حتى يصل إلى موطنه الأول. ويعود النبي بعد اعتزاله بطاقة روحية لقلب المجتمع. وإذا جنّ فيلسوف مثل نيتشه فقد تموت أفكاره في أيامه لتبعث بعد أكثر من مائة سنة على يد فوكوياما وهو يصدر كتابه الجديد عن الإنسان الجديد بعد ثورة التقنية البيولوجية.