سارتوري .. محاور لا يجد من يحاوره

TT

معاودة ظهور النقاش حول الادعاء بعدم تأقلم المسلمين المهاجرين الى أوروبا يؤكد أن التعصب والكراهية العنصرية لا يزالان كامنين في المجتمع الأوروبي، ينتظران الفرصة دائماً للتعبير عن ذاتهما في اشكال مختلفة، ومن أهمها الشكل الاكاديمي. والاعتقاد السائد هو ان الهجرة الى أوروبا ستكون اخطر الموضوعات التي ستواجهها المجتمعات الأوروبية في العقود المقبلة، فالاحصائيات في دول التجمع تذكر أن ستة من كل عشرة أشخاص يرون ان عندهم اجانب اكثر من اللازم، خاصة من العرب، ويلقي نصفهم اللوم على الاجانب في تضخم ميزانية الخدمات الاجتماعية، في حين ان الثلث يعتبر الاجانب مسؤولين عن زيادة الجريمة. كما لاحظت المفوضية الأوروبية في تقاريرها زيادة حالات العنف لأسباب عرقية.

لكن خطورة هذا الموضوع تبدو جلية عندما يتبنى هذا الاتجاه مفكر سياسي أوروبي معروف بكتاباته الهامة في اهم القضايا السياسية لأوروبا المعاصرة، مثل «جيوفاني سارتوري» الايطالي الذي يعتبر عميد كتاب اليسار الليبرالي في اوروبا، وحتى وقت قريب كان استاذا في جامعتي فلورنسا وكولومبيا بنيويورك. وجدير قبل ان نشير الى ما جاء في كتابه الأخير في هذا الصدد، أن نذكر بكتاب له صدر منذ عامين «المجتمع المتعدد العرقيات» اثار جدلا شديدا في الاوساط الصحفية والاكاديمية والبرلمان الأوروبي. وهو يرى أن المجتمع السليم هو الذي تسوده التعددية والتنوع، وما يؤديانه الى التوافق والاندماج كركيزة اساسية للنظام الفكري الأوروبي، فهو بالضرورة بعيد عن العقائد الدينية. ويخلص الى ان الهجرة الى اوروبا يجب أن تكون من شعوب يسهل عليها الاندماج وهو ـ في رأيه ـ ما لا يتوافر في الانسان المسلم الذي لا يبدي اي رغبة ـ الا نادرا ـ في هذا الاندماج، لأن تفكيره الديني وقيمه الدينية تختلف تماما عن القيم الأوروبية او الاشتراك الحضاري الاوروبي. والاسلام ـ يقول سارتوري ـ دين عنده ما يقوله في الشؤون العامة، وهو دين يفرض نفسه بنفسه ويمر حاليا بمرحلة جديدة تضفي عليه قوة لا تتماشى مطلقا مع المجتمع الغربي.

وقد جاء صدور هذا الكتاب متزامنا مع تقديرات أصدرتها المجموعة الأوروبية والأمم المتحدة عن تناقص حاد في القطاع المنتج من شعوب أوروبا الذي بدأت تدب فيه الشيخوخة ـ وهو القاعدة الأساسية في تقدير المعاشات وكافة الخدمات الاجتماعية ـ في حين لا يزيد تعداد شعوب أوروبا الا نسبة قليلة جدا، وأنه حتى تحتفظ أوروبا بمميزات المعاشات الحالية والخدمات الاجتماعية، ستحتاج الى استيراد عمالة مهاجرة قدرت بـ 44 مليون عامل في الفترة حتى عام 2050، بالاضافة الى 12 مليون اجنبي مسجل بصفة رسمية، وثلاثة أو أربعة ملايين موجودين بصفة غير قانونية. فكانت آراء سارتوري تعليقا على هذا الاتجاه الجديد.

وقد وجدت آراء سارتوري المتطرفة من يرد عليها في بعض الأوساط الأوروبية ومن أهم ما قيل في الرد عليه:

ـ ان اختيار المهاجرين على اساس عرقي يخالف الضمير الاخلاقي لعصرنا. حتى التشريعات الأمريكية التي كانت تحدد حصصاً على اساس عرقي اعتبرت منافية لحقوق الانسان والغيت عام 1965، وكذلك في كندا واستراليا حيث ألغيت سياسة «الأبيض فقط».

ـ ان مبدأ المعاملة المتساوية وهو حجر الزاوية لسياسة الاندماج الأوروبية، يعتبر تطبيقا مهما للمبدأ الديموقراطي الذي يدافع عنه سارتوري. وهناك نجاح اندماج الهندي والباكستاني في بريطانيا او التركي في المانيا وهولندا والمغربي في فرنسا وبلجيكا. ورغم تعصب الولايات المتحدة في فترة ما ضد الصينيين فقد ثبت ان اكثر الاجناس اندماجا في المجتمع الأمريكي هم من أصل آسيوي. ومعروف اندماج وولاء الجاليات العربية في دول امريكا اللاتينية.

ـ انه لا توجد حلول سحرية للتوافق بين الثقافات المختلفة، لكن مثل هذه الحلول لن توجد خارج مفهوم احترام الاختلاف والتسامح المتبادل والمساواة في التعامل. وفي كثير من الحالات يحتاج الأمر الى تحولات معقدة بطيئة، لكنها تصبح أكثر تعقيدا اذا وسعنا مفهوم التعارض بين الاسلام والغرب، مما يؤدي الى تداعيات كان من الممكن تجنبها.

ـ عرفت اوروبا مثل هذا التعصب من قبل. ففي بداية القرن العشرين كانوا في فرنسا يعتبرون الايطاليين غير قابلين للاندماج لأنهم «كاثوليك اكثر من اللازم». وفي العشرينات والثلاثينات، كانوا في كل اوروبا يعتبرون اليهود جامدين وغير مرنين واعداء المسيح وضالعين دائماً في مؤامرات مالية. وبعد الحرب، قيل عن المهاجرين الاسبان في فرنسا وبلجيكا والمانيا وسويسرا انهم مزعجون وعدوانيون اكثر من اللازم. وعادت النغمة ذاتها في السبعينات بالنسبة للمهاجرين من المغرب العربي في فرنسا وبلجيكا.

والذي اثار هذه السطور عودة سارتوري لتكرار أغلب هذه الآراء في كتاب له صدر مؤخراً بعنوان «انفجار الأرض» يحذر فيه اوروبا بالذات من الخطر الذي يتهدد مجتمعاتها والديموقراطية فيها، من الانفجار السكاني من المواليد التي تضخها الدول الفقيرة، والتي قد تتجه الى اوروبا، خاصة من الدول الاسلامية، بل ان هذا الانفجار السكاني على مستوى العالم يمثل خطرا حقيقيا على الانسانية نفسها. فاذا كان تعداد العالم الآن في حدود ستة آلاف مليون نسمة فسوف يصل هذا الرقم ـ حسب معلوماته ـ الى تسعة آلاف مليون في عام 2050، الف مليون فقط منهم سيعيشون في العالم المتقدم، اما الاغلبية الكبرى في العالم الفقير فستقضي بسرعة على الموارد من دون ان تكون لها اي قدرة على تنمية مستدامة، ولذا فإنه يطالب الدول الغنية بتقييد منح اي معونات للدول النامية، الا بمقابل تعهد بسياسة واضحة لتحديد شديد لنسبة المواليد عندها.

ورغم ان سارتوري يوجه انتقاده الاساسي الى الفاتيكان لسياسته المعروفة من الاجهاض وتحديد النسل، والى حكومة الرئيس بوش التي قطعت تماما أو تقريبا كل المعونات للدول الفقيرة من اجل التصدي للانفجار السكاني فيها، الا انه يجد في هذا الموضوع بطابعه الدولي المعقد، مناسبة ليكرر آراءه عن «المخاطر الضخمة» للهجرة المسلمة لأوروبا. ويشير الى ان الحروب الدينية الداخلية في أوروبا التي انتهت الى فصل الكنيسة عن الدولة، أمر لم ولن يحدث في العالم الاسلامي. فالمجتمعات الاسلامية ترفض فكرة فصل الدين عن الدولة، ويظل مصدر التشريع عندها ما تتلقاه من المؤسسة الدينية. اما العناصر المسلمة التي تألفت بالفعل مع الحياة الديموقراطية في الغرب فهي اقلية صغيرة جدا، وتتضاءل بجانب التيار الأصولي القوي، والذي استفاد لتدعيم نفسه من اجهزة حديثة كالتلفزيون وعرض رسالته فيه. هذا التيار يمثل عنصر قوة تلتف حوله اغلبية الـ 1200مليون مسلم الموجودين في العالم الآن. ان احدا في العالم العربي لا يتحدث عن الديموقراطية كما نتكلم عنها في اوروبا، وكل ما يجري في هذا العالم الهش هو الحديث عن بعض الحلول المؤقتة، وهو ما يجري ايضاً داخل القبائل الافريقية.

أما عن حرب بين الحضارات فهو لا يعتقد بها، لكنه يعتقد ان العالم الاسلامي سيستمر في كونه العالم المناهض للحضارة الأوروبية، وقد يحاول ان استطاع ان ينفذ الينا ويؤثر فينا لا عن طريق السلاح وانما عن طريق كثرة المواليد، فكثرة المواليد هي ايضا سلاح، وهو ما يعتبره الفلسطينيون اقوى اسلحتهم.

وبعد، فآراء سارتوري المتطرفة تثير التأمل والاهتمام، لا لكونه اشهر اكاديمي في العلوم السياسية والاجتماعية في اوروبا فقط، وانما لأنه كان حتى وقت قريب، مفهوما عنه أنه زعيم اليسار الاكاديمي فيها بكل ما له من مكانة وتأثير. ترى، ماذا ترك من دعاوى اخرى لدعاة اليمين الأوروبي؟ لكن الموضوع من الزاوية الاقتصادية والسياسية جدير ان يحتل اولوية في اجندة العلاقات العربية ـ الأوروبية، ويستحق إثارته على مستوى المؤسسات الأوروبية، خاصة المفوضية والبرلمان الاوروبي. كذلك ألا يجدر بالهيئات والشخصيات الاسلامية في اوروبا ان تقيم حوارا عقلانيا هادئا مع سارتوري بعد ان قامت شخصيات اوروبية بمثل هذا الحوار؟ وإلا فما هي مهمتها الحقيقية؟