صبي «سوني»

TT

كان جورج بومبيدو يقول إن السياسة هي فن الممكن. ولكن سلفه شارل ديغول أنقذ فرنسا ورفعها عن الحضيض وانتشلها من التمزق لأنه تصرف على أن السياسة فن المستحيل. ومن منفاه في لندن جعل الفرنسيين يلتفون حوله وبعث فيهم طاقة المقاومة، و«صنع من الضعف قوة» وكلما رد له البريطانيون طلبا تظاهر بأنه يطلب موعدا مع السفير السوفياتي في لندن، فيتراجعون. وكان تشرشل يقول إن الحكم استباق أو رؤية وليس انتظارا للأشياء أن تقع. وقد كتب مرة إلى هيربرت اسكويت بدايات القرن الماضي يقول له: أنت قائد لا قاض. فالقضاة وحدهم يحكمون على الأحداث بعد وقوعها! وعبقرية الحكم في الشدة لا في أيام الرغد. وعندما يكثر الأعداء لا عندما يتهافت الأصدقاء. والرؤية تؤدي إلى المخارج لا إلى المآزق.

معركة العلمين، أشهر معارك الحرب العالمية الثانية خارج أوروبا، خاضها مارشال ألماني واحد يدعى أروين رومل وثلاثة مارشالات بريطانيين آخرهم مونتغمري. وانتصر مونتغمري لأنه أمضى الوقت يدرس فكر رومل، ويحاول أن يفكر كما يفكر عدوه. ولولا «العلمين» لخسر البريطانيون الشرق الأوسط للألمان الذين جلسوا يحلمون بقناة السويس وخط برلين ـ بغداد ورفعوا شعار «الاتجاه شرقا».

وفي وزارة الدفاع الأميركية رجال يلعبون دور الخصوم، خصوصا في الأزمات. ومن خلالهم يحاولون معرفة ردود فعل الخصم وكيف سيتصرف. وفي الآونة الأخيرة لعب المستر ديفيد أوكلي دور الرئيس العراقي السابق صدام حسين. ورفض عودة المفتشين. ثم قبل عودة المفتشين. والمستر أوكلي مستعرب قديم بدأ عمله ملحقا «اقتصاديا» في السفارة الأميركية في بيروت، عندما كانت السفارات الأجنبية تعج بالملحقين «الاقتصاديين». وهو يغيب طويلا ثم يظهر من خلف الستار، كما فعل حين تولى الخروج الأميركي من الصومال. ويروى أنه خاطب المتقاتلين يومها «بلهجة» القرن الأفريقي؟

السياسة لعبة شطرنج. نقلة منك ونقلة من منافسك. ولذلك انتصر اللاعب الروسي كاسباروف على «الكومبيوتر»، والسبب أن «الكومبيوتر» الذي يجيب على ملايين الأسئلة في لحظة واحدة ويقدم ملايين الأجوبة، لا يستطيع أن يطرح سؤالا واحداً. انه ينتج فقط ما تعبئه به. فهو ملقن لا عقل. والعقل البشري وحده يطرح الأسئلة. إن كومبيوتر السيارة يدلك على الطريق إلى أي زقاق صغير في أي مدينة في العالم. ويعدل طريقه كلما عدلت طريقك. وينبهك إلى أن تأخذ يسارك بعد مائة ياردة ثم يمينك بعد مائتين. وعندما تصل يخاطبك قائلا: لقد وصلت إلى وجهتك. لكنه لا يستطيع أن يقول لك كيف سيكون مذاق الأكل في المطعم. ولا أن يطرح السؤال عليك. إن العقل والحواس هي للبشر. وقد اخترعت شركة «سوني» اليابانية كلبا آليا مذهلا والآن اخترعت «صبيا» آليا جميلا يتحرك في المنزل مثل أي ولد، ويأتيك بالصحيفة عن الباب، ويدير جهاز التلفزيون. ولكنه لا يعرف أن يسألك إذا كان صداعك قد خف. ولا يأتي إليك لتساعده في جملة عربية. ولا يطلب إذنك لأنه سوف يطيل السهرة.

الحكم رؤية. والسياسة رؤية. وعندما يتصرف السياسيون مثل صبي «سوني» لا يعرفون كيف يطرحون الأسئلة. ولذا يتلقون الأجوبة التي لم يطلبوها.