إعلان القاهرة وآفاق جديدة لمستقبل السودان

TT

اعلان القاهرة الذي صدر يوم 24 مايو 2003 بتوقيع السيد محمد عثمان الميرغني والسيد الصادق المهدي والدكتور جون جارانج، يشكل نقطة تحول هامة في مسار السياسة السودانية التي تستهدف الوصول الى السلام، بعد حرب اهلية استمرت 20 عاما، وبعد غموض احاط بطريق المستقبل، الذي يؤدي الى وحدة وطنية شاملة وديمقراطية شعبية اصيلة.

وقد سبق صدور اعلان القاهرة عدة احداث شكلت في مجموعها قوة دافعة لتحريك الامور، فقد تم توقيع اتفاق ماشاكوس بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، ووقع قتال جانبي في منطقة دارفور، وزال الجمود الذي سيطر سنوات على العلاقات بين مصر والسودان، وقام الرئيس مبارك بزيارة الخرطوم بعد انقطاع استمر 13 عاما.

ومن هنا جاء اعلان القاهرة محصلة لأحداث فرضت نفسها على الساحة السياسية، وظهر ذلك في كلماته الاولى التي جاء فيها «ان اللقاء قد تم في قاهرة المعز وعلى أرض مصر التي تشارك شعبنا المصير والتاريخ والجغرافيا والمصالح منذ فجر التاريخ»، وهو ما يظهر ان صفحة جديدة قد فتحت في ملف العلاقات المصرية ـ السودانية.

وخلال الاسبوع الماضي كانت القاهرة ساحة لندوات وحوارات حول آفاق التطور في العلاقات المصرية ـ السودانية من جهة، ومن جهة اخرى احتمالات الوصول الى السلام العادل والدائم والديمقراطية الحقيقية والمستدامة في السودان، والتي جاء في اعلان القاهرة أنها لا يمكن أن تتحقق الا في ظل اجماع وطني بين كل القوى السياسية وبين ابناء الشعب السوداني جنوبا وشمالا وشرقا وغربا ووسطا. واستقبلت اللجنة المصرية للتضامن السيد الصادق المهدي، وحضر الحوار معه ممثلون من مختلف الاحزاب والهيئات السودانية والمصرية، مما اعطى للقاء حرارة وصدقا وصراحة.

وقد فسر السيد الصادق المهدي اختياره اماما للأنصار تفسيرا جديدا لا يتعارض مع ممارسة السياسة، لانه قال ان الإمامة لم تعد مقدسة بل اصبحت إمامة تفويض، وأن البيعة تقوم على اساس المشورة وحقوق الانسان، وفسر نظرته الى التكامل الذي عاد يفرض نفسه على الساحة من جديد، بأنه هدف يجب السعي لتحقيقه، وهو موقف يتجاوز الفكرة التي سبق ان أدت الى تجميد أو الغاء مشروعات التكامل التي وقعت بين مصر والسودان بعد قيام الانتفاضة الشعبية في ابريل 1985. وانهيار نظام جعفر نميري، يوضح المدى الذي وصلت اليه رؤية الزعيم السوداني الذي وقع بروتوكولا بصفته زعيما لحزب الامة مع صفوت الشريف امين الحزب الوطني الديمقراطي، يقضي بالتآخي بين الحزبين وتبادل الحوار والزيارات، كما كانت عودة الصادق المهدي الى اصدار بيان مشترك مع قادة التجمع الوطني الديمقراطي ايجابية في طريق التعاون المشترك من أجل تحقيق اهداف جميع القوى السودانية التي تستهدف اقامة نظام يقوم على اساس المشاركة، والمساءلة والشفافية.

وقد اقر اعلان القاهرة مبادئ جديدة تعتبر آفاقا لمستقبل السودان، فقد رأى ان الاتفاق على (قومية العاصمة) التي تساوي بين كل الاديان والمعتقدات ضرورة لازمة للحفاظ على وحدة السودان على أسس جديدة، وقد فسر الصادق المهدي قومية العاصمة على اساس ان يستقطع لها جانب من الخرطوم على ان تظل العاصمة المثلثة باقية تضم بقية الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان.

كما اثار الاعلان اهمية وضرورة التنسيق والتشاور بين الاحزاب الكبيرة وبين بقية القوى السياسية السودانية سعيا لاجماع وطني يحظى بسند شعبي وتأييد اقليمي ودولي، وهو ما أجاب عن تساؤلات بعض ممثلي الاحزاب الصغيرة الذين كانت تثور في نفوسهم شكوك حول تغييب دورهم. فقد جاء في الاعلان ان مشاركة كل القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني في صياغة دستور الفترة الانتقالية هو الامر الذي يؤدي الى تحول ديمقراطي حقيقي يقوم على اساس ان تكون الانتخابات العامة عبر رقابة دولية ولجنة انتخابات قومية مستقلة.

ولا شك في ان حرص اعلان القاهرة على المشاركة الجماعية لكل القوى السياسية هو ابلغ رد على النقد الذي وجه الى اتفاقيات (ماشاكوس) التي عقدت بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان فقط، وغياب بقية القوى الشعبية الكبيرة أو الصغيرة، لانه بذلك يحقق ماشاكوس شعبية لا تغيب عنها القوى السياسية السودانية الاخرى، ولا الدول العربية، أو الدول الاقليمية.

ومعروف ان الحالة في السودان تتعرض لضغوط مختلفة، منها ضغوط دولية حيث يبلغ ما تصرفه هيئات الاغاثة الدولية حوالي مليون دولار يوميا، وامريكا ترى ان سلام القرن الافريقي يؤثر تأثيرا مباشرا على منطقة الخليج، كما ان مجلس الكنائس العالمي يحرص على حماية حقوق المسيحيين من أي قهر ديني، والحقائق تشير الى ان هناك 21 هيئة ومراكز ابحاث دولية تدرس الشأن السوداني بينما الدور العربي غائب عن دائرة التركيز والاهتمام.

ولذا فإن اتفاق ماشاكوس رغم انه كان خطوة طيبة الى الامام الا انه لم يعد ممكنا أو مجديا لانه يجب ان يضم الجميع كأساس لبناء المستقبل، ولا حل الا بالتنازل عن الاحادية المركزية أو الدينية أو الثقافية، وهو ما كانت تعتمد عليه حكومة الخرطوم وثبت بالواقع والاحداث عدم القدرة على انهاء الازمة عن طريق القتال أو الحرب لمحاولة فرض الشريعة الاسلامية على جميع السودان، اذ اصبح الامر الآن يحتاج الى رحابة في التفكير وسعة في الافق، وحرص على السلام.

ومن هنا، تأتي مشكلة الجيش السوداني الذي يعتبر في تشكيله الحالي جيشا عقائديا تابعا لحزب المؤتمر الوطني بعد طرد 5000 من قادته، وهو ما يتعارض مع قومية الجيش التي تمنع الحرب الاهلية وتخلق للسودان جيشا موحدا، وهو امر اصبح في قائمة اهتمامات جميع القوى السياسية.

ومن الظواهر الايجابية التي صاحبت اعلان القاهرة ان الحكومة السودانية قد رحبت به على لسان المستشار السياسي لرئيس الجمهورية، وتمنت لو كانت قد دعيت اليه، كما ان المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الدكتور حسن الترابي قد ايد الاعلان دون تحفظ، وهي امور مبشرة بأن جميع الوان الطيف السياسي في السودان قد تلاقت اخيرا على ساحة افضل للحوار وصولا الى سلام دائم وسودان ديمقراطي موحد.

واخيرا، يمكن القول ان الظروف التي يمر بها السودان الآن هي ظروف غير مسبوقة خلال العقود الماضية منذ وثوب الحكم العسكري على مقاعد السلطة السودانية على عهد جعفر نميري، لانها اظهرت في اعلان القاهرة حرص الجميع على تلافي اخطاء الماضي، والوصول الى اتفاق يترقبه شعب السودان، والدول العربية والاقليمية والدولية.