تنفيذ خريطة الطريق يضع الأطراف المعنية على محك الاختبار

TT

هل ستنجح خريطة الطريق في تحقيق تسوية سلمية عادلة للصراع الاسرائيلي الفلسطيني ام ستتبخر الآمال المعقودة عليها بانتهائها الى الاخفاق الذي عرفته مشاريع السلام السابقة التي طُويت ودخلت في «الارشيف» المنسي للتاريخ؟

منذ احتلال اسرائيل للاراضي العربية في اعقاب حرب 1967 وصدور قرارات الشرعية الدولية من مجلس الامن التي تقضي جميعها بوجوب انسحاب اسرائيل والعودة الى حدود ما قبل هذه الحرب توالت مشاريع السلام التي تجاوزت السبعين، وتقدمت بها اطراف دولية، او اقترنت بأسماء شخصيات سياسية تمثيلية عالمية، وكان من بينها مشاريع عربية واخرى اسلامية.

تعدّت مشاريع التسوية الاميريكية وحدها العشرين. وحملت اسماء رؤساء ووزراء وساسة الولايات المتحدة الاميريكية. وبلغت حصة الاتحاد السوفياتي (الاسبق) من مشاريع التسوية خمسة، والقليلون هم الذين ما يزالون يذكرون المشاريع «الهالكة» من امثال مهمة يارينغ، ومشروع روجرز، وغيرهما من المشاريع التي حملت اسماء اموات واحياء منسيين. وبلغت مشاريع السلام التي تقدم بها العرب ما يناهز 15، كمشروع الرئيس (الراحل) الحبيب بورقيبة، ومشروع الملك حسين (الراحل)، ومشروع الرئيس حسني مبارك، ومشروع الملك فهد الذي اصبح يحمل اسم خطة السلام العربية، (او خطة فاس ـ المغرب)، واخيرا خطة ولي العهد الامير عبد الله بن عبد العزيز التي اعتمدتها قمة بيروت العربية، وساهمت مجموعة اوروبا الغربية بستة مشاريع، ومجموعة اوروبا الشرقية (بدون الاتحاد السوفياتي) بأربعة، بالاضافة الى مشاريع التسوية الصادرة عن مجموعة دول عدم الانحياز، ومشروع دول اميريكا اللاتينية، والمشروع الهندي، والمشروع اليوغوسلافي الى آخر المسلسل الذي يصعب حصره.

وكان من اواخر المشاريع مشروع اوسلو الذي تطلب ازيد من عشر سنوات للتفاوض عليه، وكان من المنتظر ان يؤدي في خاتمة المطاف الى اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي تعترف بها اسرائيل وتتعاون معها ندا لند. ثم كان ما تخلل من طرح مشاريع للتسوية في كامب ديفيد الاولى والثانية بمشاركة الرئيس كلينتون، دون ان ننسى خطة تينيت، ومساهمات ميتشيل. وهذا المسلسل الطويل هو الذي جعل البعض يطلق على القرن العشرين «قرن التسويات الفاشلة لمشكل الصراع العربي الاسرائيلي».

وكان يمكن الاستغناء عن جميع هذه المشاريع والاكتفاء بفرض تنفيذ الشرعية الدولية كما نطقت بها سلطة الامم المتحدة، فالحلال بيّن والحرام بيّن، وليس بينهما في «شرع» الامم المتحدة «متشابهات» (او مُشْتبهات). وخلاصة هذه القاعدة في لغة المنتظم الدولي ذات الدلالة الثابتة القطعية ان ما أُخذ بالقوة المسلحة يُرَد الى اصحابه بقوة الشرعية الدولية، وان الاحتلال عدوان، وعلى المجتمع الدولي رفعه عمن وقع عليه، وانه من المحرمات البحث عن تسوية للنزاع خارج ما قضت به الامم المتحدة من وجوب انسحاب المعتدي الغاصب من جميع الاراضي (بالتمام والكمال) التي احتلها بالقوة دون ان يُعطى له عن ذلك اي تنازل او مقابل.

لكن اسرائيل هي التي اخترعت لمعارضة هذا المبدأ القانوني السليم «مبادئ» معارضة واجهت بها جميع مشاريع التسوية والغمتها وتولت وأدها واقبارها اذ لم تقبل التعاطي مع اية واحدة منها.

فهل جهود الرئيس بوش التي بدأها هذه المرة لحمل الطرفين المتنازعين على قبول خريطة الطريق تعني تحول الولايات المتحدة الى ترجيح كفة الانصاف والعدل في ميزان التسوية التي تطرحها خريطة الطريق وتؤشر الى تصميمها على حط ثقلها الوازن لوضع حد لمطامع اسرائيل التي افشلت جميع التسويات السابقة؟ نأمل ان يصبح هذا التحول واقعا ملموسا وممتدا دون ان يعتريه انتقاص وانتكاس اثناء رعاية مفاوضات السلام المقبلة، وان تحقق خريطة الطريق اغراضها دون تعثر او جنوح الى الرضوخ للاءات اسرائـيل المُشتطّة التي واجهت بها ـ فيما مضى ـ عشرات مشاريع التسوية ونحرتها.

لعل لأملنا هذا ما يعزز قوته هذه المرة، لان السياق الظرفي الذي يطرح فيه اليوم الرئيس الاميريكي «ورقة الطريق» (حسب التعبير الاميريكي) يختلف كل الاختلاف عن السياقات التاريخية السابقة: الرئيس الاميريكي يبدو انه يراهن على كسبه السلام العربي الاسرائيلي باسلوب الحوار الحضاري المقبول من المجتمع الدولي بعد ان كسب رهان حرب العراق التي لم تظفر بالشرعية والاجماع، واذا ما نجح في كسب رهان السلام العادل الشامل في منطقة الشرق الاوسط فربما يمحو من الذاكرة ما علق من شبهات بكسب رهان حرب العراق. وهو في حاجة الى استرداد الثقة في مقدراته الفكرية والخلقية ليواجه ناخبيه السنة المقبلة بوجه الرئيس الكفء النزيه صاحب مشروع تخليق المجتمع الدولي والمشرف على اصلاح المجتمعات المحتاجة الى الاصلاح. وستكون مرحلة اصلاح الاوضاع بين العرب واسرائيل على اساس فرض الشرعية الدولية على اطراف النزاع ابرزَ المراحل واحفلَها دلالة على انه يملك مشروعا حضاريا للاصلاح والتغيير ولاشاعة السلام عبر المعمور، وانه ينجح في فرضه بالتفاهم والحوار، ولا يلجأ الى فرضه بالقوة الا عند الضرورة عندما يتعذر الحوار، وانه في آن واحد رجل الحرب ورجل السلام.

ويدخل في السياق الظرفي الذي يطرح فيه الرئيس الاميريكي خريطة الطريق سياق التحول الذي طرأ على المنطقة بعد كسبه حرب العراق، لان جيشه الرهيب موجود اليوم في الخليج وفي افغانستان، ولان للولايات المتحدة في المنطقة حلفاء يوالونها ولا يكتمون وقوفهم بجانبها ولا يدّخرون جهدا في مساعدتها على ان يكون وجودها في المنطقة آمنا والتعاون معها مكفولا وصادقا. وهو ما يجعلها لم تعد في نفس الحاجة التي كانت لها الى اسرائيل عندما خولت لهذه الاخيرة وحدها لعب دور الدّركي الحامي لمصالحها في المنطقة البعيدة جغرافيا عنها. ومن اجل ذلك كانت لا ترد لاسرائيل طلبا ولا تبخل عليها بدعم. اما اليوم فالحضور المادي والتدخل المباشر للولايات المتحدة في المنطقة يسمحان لها بان تضغط على اسرائيل، وان تمارس استقلالية القرار الاميريكي ازاءها بعد ما فقدته طوال السياق التاريخي السابق.

والمطلوب من اسرائيل اليوم ان تساعد حليفها الاميريكي بالانصياع الى الدخول في منظومة السلام العربي الاسرائيلي الذي يبدو انه اصبح خيار الولايات المتحدة. وكل تعصب اسرائيلي لمناهضة السلام وتحدي مشروع الولايات المتحدة في المنطقة يضر بمصالح الولايات المتحدة. ولا يجوز ان تكافئها اسرائيل بالاضرار بمصالحها على ما اسدته لها منذ قيامها سنة 1948 من دعم وسند، وان تجازي الرئيس الاميريكي باحباط مشروعه السلمي وتحويله الى رئيس فاشل.

ويبدو ان رئيس الوزراء الاسرائيلي اخذ يتفهم على استحياء وضع الولايات المتحدة الجديد، لكن سيظهر عبر المفاوضات مقدار تأقلمه مع هذا الوضع. والى ذلك الحين فهو موضوع تحت الاختبار.

ويبقى ان تحسن الولايات المتحدة توظيف قدراتها وظروف انتصارها في العراق في توجيه عمليات السلام الوجهة العادلة، وتشرك معها في الدفع بعملية السلام الاطراف الثلاثة الاخرى شريكتها في وضع خريطة الطريق، ليضع الجميع ثقله للتسريع بحركة السلام، وان تسهر على ان يقوم الطرفان الاسرائيلي والفلسطيني بما طلبته منهما الخريطة بصفة متوازية ومتوازنة، وباقصاء الشروط التعجيزية التي تتشبث بها اسرائيل عن قصد لافشال عملية السلام. وفي طليعتها اعتبار توقف المقاومة الفلسطينية الشرط الاول والتدبير الاسبق الواجب على الفلسطينيين دون ان تقوم من جانبها مسبقا بما طلبته منها الخريطة، وهو اضعف الايمان: اطلاق سراح المعتقلين، وايقاف اغتيال المدنيين، ورفع الحواجز، ووضع حد لمعاناة الشعب الفلسطيني اقتصاديا واجتماعيا وامنيا، والشروع في الانسحاب من الاراضي المحتلة، وتجميد الاستيطان. والرئيس الاميريكي موضوع تحت محك اختبار مقدار تشبثه بالخريطة التي قال عنها انها لن تكون موضوع التفاوض.

ورئيس حكومة فلسطين ابو مازن موضوع هو ايضا تحت محك الاختبار بقدر ما يبديه من قدرة على لعب دور القائد الفلسطيني الذي لا يلغي دور الرئيس عرفات التاريخي. ليكون ابو مازن القائد الذي تتوحد حوله فصائل الشعب الفلسطيني، هذه الفصائل الموضوعة بدورها تحت محك اختبار قدرتها على دعم الصف الفلسطيني الواحد، ذي القرار الواحد، حتى لا يبقى من يغرد خارج السرب.

ولعل احسن مقاربة للخروج من مأزق العنف والعنف المضاد هو ان تتوفر الارادة عند طرفي النزاع الى التسابق للقيام بكل تدبير يجذِّر ارادة السلام في الضمائر والعقول والسلوك بما يجعل خيار العنف المتبادل متجاوزا وغير ذي موضوع.

وغني عن القول: ان الاطراف المعنية بالخريطة (وهي اعضاء اللجنة الرباعية) توجد اليوم هي ايضا على محك اختبار نواياها. فهي مدعوة لاعطاء زخم مساعد على ان تنتهي خريطة السلام الى تحقيق اهدافها في الاستحقاقات المحددة لها، وعليها ان تواجه جماعيا وبصفة مباشرة هذا التحدي بما تتطلبه مسؤوليتها من اصرار وحزم.