«بيل المحظوظ» يستعد لترك السلطة بإثارة جدل جديد مع التاريخ

TT

قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن اللقب الذي سيمنحه التاريخ لبيل كلينتون المنهمك هذه الأيام بالتحضير لمغادرته النهائية للبيت الأبيض. لكن الأمر قد ينتهي به إلى أن يعرف بـ«بيل المحظوظ»، كونه ذلك السياسي البارع الذي تمكن من التقاط أرقام قد تبهر أي بهلوان ساحر.

فبيل كلينتون فاز بالرئاسة عام 1992 بضربة حظ لأن مليونير تكساس روز بيرو، ذلك الرجل الصغير الذي كانت طموحاته كبيرة، كان قد اشترك في سباق الرئاسة بنية معروفة هدفها أن يمنع الرئيس جورج بوش من الفوز بفترة رئاسية ثانية، حيث تمكن بيرو من الفوز بنسبة 19 في المائة من أصوات الناخبين، التي تكونت معظمها من أصوات أنصار الحزب الجمهوري، الأمر الذي مكن كلينتون من تجاوز عنق الزجاجة بنسبة تقل عن 42 في المائة. وبعد أربعة أعوام فاز كلينتون بفترة رئاسته الثانية بحصوله على ما يزيد على 48 في المائة، في منافسة أخرى حصد فيها بيرو ما يقرب من سبعة في المائة من أصوات الناخبين.

لم يتمكن كلينتون قط من الفوز بأغلبية أصوات الأميركيين، لكنه مع ذلك كان الديمقراطي الوحيد الذي أمضى فترتين رئاسيتين منذ الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت الذي حكم أميركا قبل حوالي ستة عقود من الزمن. ومع بيان حالة الانقسام العميق التي يشهدها المجتمع الأميركي بوضوح هذه الأيام، يصعب تخيل أن يتمكن أي رئيس قادم من الفوز بفترتين رئاسيتين خلال المستقبل القريب. وهكذا فمن الأرجح أن ينظر إلى كلينتون باعتباره حالة استثنائية إلى أمد بعيد للغاية.

وحظ كلينتون تجاوز انتصاراته الانتخابية. حيث ساعده الحظ عندما أقنع الكونغرس الذي يهيمن عليه الجمهوريون بالانغماس في وحل مشروع ابتكره الرئيس وزوجته لتأميم الخدمات الصحية في الولايات المتحدة. ولو كانا قد نجحا في مشروعهما لتحول صلب النموذج الخاص بالاقتصاد الأميركي عن مساره، وهكذا يتحول الازدهار الاقتصادي إلى بدايته.

خلال معظم سنواته الثماني في البيت الأبيض كان كلينتون محظوظاً بدرجة كافية مكنته من العمل مع مجلسي النواب والشيوخ اللذين سيطر عليهما الجمهوريون، الأمر الذي لم يمكنه من «الوقوع في المثلث»، كما يحلو له القول، أي أن يمسك بعصا طويلة بين تطرف اليسار واليمين، وخلال أعوامه الأخيرة، وهو يتطلع ربما إلى مكانته في التاريخ، سعى كلينتون إلى تقديم نفسه كمؤسس للنظرية الجديدة التي أطلق عليها «الطريق الثالث».

لقد حالف كلينتون الحظ ليمكنه من تجاوز سلسلة من الفضائح التي شابت فترة رئاسته ابتداء من صفقة العقارات في وايت ووتر وحتى قضية مونيكا لوينسكي.

ومع ذلك فإنه لا بد من القول بحقيقة أن كلينتون يترك السلطة وهو يتمتع بأعلى مستوى شعبية تم تسجيلها لأي رئيس أميركي، مع انتهاء فترة رئاسته. والقليل من الأميركيين يقولون إنهم معجبون بكلينتون أو يثقون به، وهناك العديد منهم ممن لا يحترمونه من ناحية أخلاقية. وتعتقد أغلبية كبيرة من الأميركيين أنه قام بعمل جيد كرئيس للبلاد. كما أن المستوى الجيد لشعبية كلينتون توفر جملة من الدروس التي قد يستفيد منها السياسيون في الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تحظى بحياة سياسية حقيقية.

أول هذه الدروس أن على الحكومة أن تبذل أقل جهد ممكن. فخلال عامه الأول كرئيس لأميركا أحال كلينتون إلى الكونغرس عدداً قليلاً من مشروعات القوانين لم يتقدم به أي رئيس أميركي منذ حوالي قرن من الزمان، حيث حشد طاقاته الكامنة لتحقيق هدف واحد تمثل في إعادة انتخابه، ولم يكن ليفعل شيئاً قبل أن يتأكد من أنه قد يساعده للفوز بعدد أكبر من أصوات الناخبين.

أما الدرس الثاني فهو ان يتجنب المواجهة مع خصومه السياسيين. فقد آمن كلينتون بصدق بأنه لا يحتفظ بصداقات دائمة وليس لديه خصوم للأبد. وهكذا فقد كان قادراً على تغيير تحالفاته وتكوين ائتلافات مؤقتة مع مختلف أشكال البشر الذين ينتمون لجميع المشارب السياسية. حتى أن إبليس نفسه لم يكن ليجد صعوبة في إقناع كلينتون بشراكة تعود بالفائدة المتبادلة. وهذه كانت الواقعية في أقصى نتائجها المنطقية.

والدرس الثالث يتمثل في صبر كلينتون الملحوظ. فقد علمته التجربة والفطرة أن معظم المشاكل التي تزعج وتشغل البشر يمكن التغلب عليها مع مضي الوقت. وإحدى العبارات التي يفضل كلينتون ترديدها كانت «ماذا سيكون عليه الحال بعد يوم من الآن، وليس فقط بعد عام؟».

والدرس الرابع كان أن يتجنب المواجهة المباشرة. فبالرغم من ضخامة جسده الأشبه بمصارع السومو القادر على ابتلاع مارد ضخم خلال مأدبة طعام، فإنه وعندما يتعلق الأمر بالسياسة يفضل إثارة الإعجاب والترويض بدلاً من العنف والإكراه. كانت هذه المؤهلات الشخصية هي التي أثارت خصومه الجمهوريين الذين تعطشوا لمواجهة قذرة بالفعل، لكنهم لم يجدوه حاضراً في الحلبة على الإطلاق.

أما الدرس الخامس فيتمثل في مقدرة كلينتون البشرية الخارقة على امتصاص أي هجوم من دون أن يتأثر بذلك. ولسنوات عديدة اعتقد الجمهوريون أنهم كانوا يوجهون ضرباتهم للرجل، من دون أن يعلموا أن كلينتون كان، في حقيقة الأمر، عبارة عن حقيبة قماشية معبأة بحجارة. فالرئيس الأسوأ سمعة في التاريخ الأميركي لم يكن يواجه مشكلة في النوم كل ليلة حتى في أشد الأوقات صعوبة.

وأخيراً، فإن كلينتون وربما بالفطرة، كان مقتنعاً بأن التمسك بالسلطة يعد في حد ذاته نهاية. وكان مقتنعاً بأن شعبية المرء ومدى احترامه وصوابه ليست ذات أهمية كبرى متى ما غادر السلطة. فسيرته الذاتية لا تتضمن فصلاً مخصصاً للقديس جودي، القديس الراعي للقضايا الخاسرة. وكان أول مثقف يصبح رئيساً للولايات المتحدة منذ وودرو ويلسون، مع مراعاة الفارق بين الرجلين. فويلسون اعتقد أنه يستطيع وضع السلطة السياسية في خدمة قضية ما، بينما اعتقد كلينتون، من جانب آخر، أن القضايا يمكن أن تكون مفيدة في حالة مساهمتها في الفوز بالسلطة.

الأمر الملحوظ أن ويلسون وكلينتون اشتركا في اهتمامهما بنفس المؤلفين والنماذج التاريخية. فكلاهما كان قارئاً شغوفاً لأعمال ماركوس أوريليوس، فيلسوف روما القديمة، وكانت قصة إيبيكتيتوس وغيرها من الروائع ضمن الروايات المفضلة لدى كل من ويلسون وكلينتون طوال سنوات تكوينهما. وقد قرأ الرجلان أعمال ميكافيلي بإمعان واعتبرا أن ذلك الكاهن هو المؤسس الحقيقي للعلوم السياسية الحديثة. كما أن تالي راند الناقد السياسي الذي برز في أوروبا خلال القرن التاسع عشر أثار فضول الرجلين.

لقد قرأ الرجلان نفس الكتب بأساليب مختلفة واستخلصا نتائج عكسية من نفس الفلسفات، فويلسون المثالي، ترك خلفه طائفة من المآسي في الخارج وأنهى فترة رئاسته بملاحظة تؤكد فشله. أما كلينتون، الواقعي، فلم يترك أية بصمات في الشؤون الدولية، وينهي رئاسته بملاحظة تشير إلى نجاحه.

لقد كان ويلسون يحلم «بعالم يستحق الديمقراطية»، ومات وهو يشعر بخيبة الأمل. أما كلينتون فحلمه المتواضع كان أن يصبح رئيساً وقد ينهي أيامه بشيء من القناعة.

هل تعتبر السلطة السياسية وسيلة للنهاية أم أنها نهاية، كما قد يكون الفيلسوف كانت قد قال «الشيء بحد ذاته»؟. بقراءة لمعظم فصول التاريخ يمكن القول إن وجهة النظر الثانية هي التي سادت. فهارون الرشيد لم يكن يعتقد أن واجبه يكمن في إقامة أي مجتمع نموذجي، كما فعل معاصره في أوروبا تشارل ماغني. فقد كانت السياسة بالنسبة لهما تعني الحكم، وكانت السلطة «الشيء بحد ذاته». وقد برزت النظرية في السياسة إبان الثورة الفرنسية، وأدت إلى تغير مفهوم السلطة كونها وسيلة لبناء هذه اليوتوبيا أو تلك. وتلك كانت نقطة البداية للعديد من المآسي البشرية التي وقعت خلال القرنين الماضيين.

على أن كلينتون، يعد إلى حد ما على الأقل، نموذجاً للحاكم التقليدي، بينما كان ويلسون مثالياً ساذجاً، وكلاهما إضافة إلى أولئك الحكام الأشرار أمثال لينين وستالين وهتلر، يمثلون نماذج لنظريات سياسية، وفي تصوري أن التاريخ سيكون أكثر رأفة بكلينتون مما هو حال ويلسون.