ثورة الريف لم تقم للإطاحة بالملكية في المغرب وأبرئ عبد الكريم الخطابي من الضلوع فيها

TT

اجرى الحوارات: حاتم البطيوي
يواصل عبد الهادي بوطالب السياسي المغربي المخضرم في هذه الحلقة من حوارات «نصف قرن تحت مجهر السياسة» الحديث عن ذكرياته بشأن احداث ساخنة عاشها المغرب في نهاية الخمسينات.

ويتناول بوطالب تمرد عدي وبيهي محافظ اقليم (محافظة) قصر السوق (الراشيدية حاليا) الظروف التي قام فيها التمرد، ودور الحسن اليوسي وزير الداخلية آنذاك.

وفي هذه الحلقة ايضا يتحدث بوطالب عن اسباب قيام احداث منطقة الريف ودور محمد بن عبد الكريم الخطابي فيها، وتأسيس الحركة الشعبية بزعامتي المحجوب احرضان والدكتور عبد الكريم الخطيب بالاضافة الى الظروف التي شكلت فيها حكومة عبد الله ابراهيم.

* في 4 مايو (ايار) 1956 شرع حزب الاستقلال في ضرب حزبكم، واختفى آنذاك 17 شخصا من الدعاة الشوريين. فكيف واجهتم هذه المحنة؟

ـ ابتدأت هذه المحنة ونحن داخل الحكومة الوطنية الأولى. وأذكر أن عبد القادر بن جلون استعجلني هاتفيا من بيته ذات ليلة في شهر رمضان للحضور عنده لأمر هام. ووجدت عنده شخصا بسيطا في هندامه من عامة الشعب وربما كان أُمِّـيا على ما كان يبدو من حديثه اسمه إدريس الشرقاوي وأطلعنا على ورقة تعريفه. كان يسكن مدينة سلا وكان يحمل مسدسا قال إنه سلمه إليه أحد خصومنا السياسيين الذي أمره أن يترصدنا نحن الاثنين لقتلنا (وسماه باسمه ولا أود أن أعلن عنه) وأخذ يبكي قائلا إنه لا يسمح له ضميره باغتيال الوطنيين، وأنه فضل أن يعصي الأمر ويخبرنا بالحقيقة، وأنه مهدد بالموت في نفس الليلة إذا لم ينفذ الأمر بقتلنا. وخرج من بيت بن جلون في ساعة متأخرة من تلك الليلة. وما أن وصل إلى قنطرة سلا حتى أطلق عليه مجهول الرصاص وأرداه قتيلا.

أما عن جلد أنصارنا بدهاليز الشرطة في عهد المدير العام للأمن الوطني محمد الغزاوي فقد عرف عدد من أعضاء حزبنا «ضيافات» خاصة في الدائرة السابعة للأمن بالدار البيضاء. وكان على رأس الأمن الإقليمي بالمدينة إدريس السلاوي الذي سيصبح فيما بعد وزيرا ومستشارا (زميلا لي) للملك الحسن الثاني. وأذكر أننا كنا ما نزال في الحكومة عندما كانت تبلغنا أنباء عن المعاملة القاسية التي كان يعامل بها السلاوي بعض أعضاء حزبنا في الدائرة السابعة للشرطة، حيث كان يقال إنه كان يشرف على عمليات تعذيب الشرطـة لأنصارنا بهذه الدائرة، وأننا حضرنا يوم الجمعة إلى مشور القصر الملكي لمرافقة الملك محمد الخامـس إلى الصلاة. وبينما نحن ننتظر خروج الملك من القصـر مَـرَّ محمد الغـزاوي وإدريـس السـلاوي عـلى الـوزراء لتـحيتهم ـ وكنا وقفنا صفا واحدا ـ لكن أحمد بن سودة وزير الشبيبة والرياضة صرخ في وجه السلاوي الذي مد يده لمصافحته وسمعه الوزراء الحاضرون: «لا تصافحُ يدي يدَك التي جلدت الوطنيين الابرياء». وكانت تلك طبيعة بن سودة الذي لا ينافق ولا يداهن ويتصرف بكل شجاعة. وعندما تزاملنا مستشارِين للملك الحسن الثاني ارتبطنا (أنا وبن سودة) بعلاقة مودة مع زميلنا إدريس السلاوي ونسينا ما كان بيننا وبينه من جفاء «فلا يحمل الحقدَ من تعلو به الرُّتَب».

* ألم تلتجئوا إلى الملك محمد الخامس ليحميكم من المضايقات التي حلت بكم في عهد حكومة حزب الاستقلال المنسجمة؟

ـ في سنة 1957 وبعد أن بلغت الأحداث أشدها وخاصة أثناء حوادث الريف واعتقال عدّي اوبيهي عامل (محافظ) اقليم (محافظة) قصر السوق (الراشدية حاليا) وآخرين ذهبا في وفد من حزب الشورى والاستقلال إلى محمد الخامس لنوضح له حقائق الأحداث وقدمنا له عنها مذكرة تفصيلية.

وأتذكر هنا أنه كان يوجد ضمن الوفد أحمد بن سودة الذي ظل في البداية صامتا لأن محمد بن الحسن الوزاني هو الذي تولى شرح الوضع للملك. ومن عادة بن سودة أنه إذا تحدث رفع الصوت. وهو خطيب مفوَّه إذا تحدث في الجماهير خطب وانفعل وأثّر. وتألم الملك محمد الخامس لذلك قائلا له: «اسكت يا سي بن سودة، ما لك ترفع الصوت في مجلسي؟» ورغم ذلك استمر بن سودة في الكلام مُفصِّلا ما كانت العصابات تقوم به من تصرفات. فقال له الملك: «اسكت إنهم يسمعونك» في إشارة منه إلى المرحوم أحمد بناني الذي كان على رأس إدارة التشريفات والأوسمة الملكية والذي كان قريبا من مجلس الملك بحيث كان يسمع كلام بن سودة وكان بناني ينتمي إلى حزب الاستقلال. فكان رد بن سودة: «فليسمعني أي كان منهم فأنا لا أبالي. وأنا أجهر بالحقيقة أمام جلالتكم». فأخذ الملك سماعة الهاتف وضغط على أزرار ثلاثة أرقام، أو ما يسمى بالخط الهاتفي الوزاري، وتحدث مع ولي العهد الذي كان موجودا آنذاك في القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية. وقال له: «يوجد عندي الآن السادة الشوريون وهم قلِقون. وسيأتون إليك فاستقبلهم واستمع إليهم». وذهبنا إليه وتكلمنا معه بكل صراحة وبتفاصيل عن الأحداث.

* وماذا كانت نتيجة لقائكم بولي العهد؟

ـ قال ولي العهد لنا: «أنا على علم بما يجري. وأعلم أسباب ما يجري. ونحن نتعامل مع هذا الوضع بكل حزم ولكن أيضا بكل حذر، لأننا لا نريد أن تقوم فتنة في البلاد». وأضاف: «وإذا كنتم قد أُصبتم بما أُصِبتم به فإنني أقول لكم بكل صراحة لكم خياران لا ثالث لهما. إما أن تصبروا وتقاوموا وقد تضيعون في هذه المعركة وتجنون منها من الخسائر ما لا يمكنكم أن تتصوروه. أما إذا عـزّ عليكم أن تصبروا فاخرجوا خارج البلاد واذهبوا إلى حيث تشاءون، وانتظروا إلى أن تتغير الأوضاع إلى ما هو أحسن». هكذا قال لنا الأمير مولاي الحسن بكل برودة. ولما خرجنا من عنده حلَّلنا كلامه وقيّمناه. وأذكر هنا وبكل صراحة أننا في المكتب السياسي للحزب أخذنا كلام ولي العهد بكل حذر، لأنه كان يقال عنه إن له انتماء إلى حزب الاستقلال. وخامر الشك بعضنا في أنه قد يكون أراد أن ينحينا عن ميدان المعركة بالداخل عندما وضع علينا التفكير في خيار مغادرة المغرب. وقررنا ألا نخرج وأن نصمت. وتبين فيما بعد أنه كان صادقا معنا، لأن القصر الملكي أخذ بزمام الأمور فيما بعد.

ولوضع مبادرتنا إلى التوجه إلى الملك للتشكي في سياقها التاريخي أود أن أقول إن هذا الاستقبال تم بعد 24 ساعة من اعتقال العامل (المحافظ) عدي أوبيهي الأمر الذي جعل كلا من المحجوبي أحرضان والدكتور الخطيب والحسن اليوسي وعددا كبير من الشخصيات الأمازيغية وغيرها يشعرون بأن السيل بلغ الزُّبَى.

وفي هذه الأثناء أيضا وقعت حوادث الريف، وهي لم تكن ثورة على الملك كما لم يكن كذلك تمرد البوادي، بل ثورة على نمط الحكم القائم.

وقد تحدث إلينا مرة الملك الحسن الثاني في الحاشية الخاصة عن حكومة الانسجام التي ثارت عليها فصائل معارضيها على اختلاف انتماءاتهم فقال: «إن الحاج أحمد بلافريج رئيس الحكومة ذهب عند الملك شاكيا من أن السلطة في الأسفل لا تعين الحكومة في مهمتها، وأنها تشجع على الفوضى والتمرد على الحكومة. وزاد قائلا: «نريد من جلالتكم أن تردوا للحكومة هَيْبتها» وكان للملك محمد الخامس مقولات حكيمة ينطق بها فقال. «أنا أعطيتكم السلطة كاملة، أما الهيبة فاطلبوها من الله فهو الذي يعطيها ولا أستطيع أن أعطيها لكم».

* أخذ حزب الشورى والاستقلال يجتاز أزمة داخلية في القيادة بعد هذه الأحداث فهل كان الأمر يتعلق بفقدان الانسجام بينكم؟

ـ المشكلة التي كنا نواجهها هي ما كان يعانيه الحزب من جمود في القيادة، خاصة الأمين العام الوزاني الذي كان لا يسير مع شباب الحزب على وتيرة سيرهم. وكان يتردد في اتخاذ قراراته. وكم كانت اجتماعاتنا تمتد وتطول ولا تنتج بمقدار ما كنا نصرفه من الوقت في النقاش.

وأذكر هنا أنه أثناء اجتماع للمكتب السياسي للحزب ببيتي في الدار البيضاء ـ حيث كنا مطالَبين بالبت في قضايا مستعجلة لم يكن الوزاني متفقا معنا على مقاربة حلها ـ صارحتُه بأن الحزب محتاج إلى تغيير طرائق عمله، وذهبت إلى أبعد فدخلت معه في مُشادَّة صاخبة وهددت بانسحابي من الحزب إذا ما استمرت حركتنا بطيئة حيث أصبحت ألاحظ أن الحزب مصاب بالشلل.

* تتحدثون عن مشادة صاخبة ولا تذكرون أسبابها. هل يمكنكم أن تحددوا أسباب هذه المشادة التي هددتم فيها بالانسحاب من الحزب؟

ـ كنا دخلنا فترة أزمة ذاتية توزعنا فيها على شقين: شباب الحزب الطامح إلى التغيير والقيام بوثبات لتحقيقه. وكان عبد القادر بن جلون من هذا الفريق رغم فارق السن بينه وبين الشباب، وشق المحافظين الذين كان على رأسهم الأمين العام للحزب الذي كان لا يساير في خطواته وتيرة سرعتنا. لكن النقطة التي طفح معها الكأس وفجرت المشادة التي أشرت إليها هي مبادرتي أنا والأخ بن سودة وعدد من أعضاء الحزب بتحويل جريدة «الرأي العام» لسان الحزب الذي كان بن سودة مديرها من أسبوعية إلى يومية. وكانت هذه النقطة قد أثيرت من لدنا في اجتماعات سابقة للمكتب السياسي للحزب. وكان الوزاني يستعظم هذه الوثبة ويقول إن لإصدار جريدة يومية شروطا لا تتوفر لنا. وهي تتطلب إدارة حازمة وخبرة بطبيعة الصحافة اليومية، وحضورا يوميا للمسؤولين عن إصدار الجريدة، وفريق عمل متخصصا في إدارة اليوميات لا يوجد عندنا. وكان الوزاني يقيم بفاس في بيته الخاص ولا يحضر إلى مركز الحزب بالدار البيضاء إلا عند الاقتضاء. وكان يعتبر أن لا أحد منا في المكتب السياسي ممن كانوا يسكنون الدار البيضاء يتوفر على المؤهلات التي يشترطها. ويرى نفسه المؤهَّل الوحيد لإدارة جريدة يومية بحكم تخرجه من مدرسة العلوم السياسية بباريس وتخصصه في الصحافة.

لقد قررنا ـ بن سودة وأنا ـ أن نكسر طوق الجمود، وأعددنا كل ما يلزم لإصدار الجريدة يوميا. ولما أعددنا العدد الأول للطبع اتصلنا بالوزاني بفاس ليبعث لنا بافتتاحية العدد وأخبرناه بأن الجريدة ستصبح يومية فغضب وامتنع عن المشاركة. لكننا أصدرنا أعدادا من الجريدة توليت كتابة افتتاحياتها بإمضاء الرأي العام. فشد الوزاني الرحلة إلى الدار البيضاء وانعقد اجتماع المكتب السياسي فحاكَمَنا الوزاني أمامه وأداننا باتخاذ قرارنا منفردين، وحمل معه مجموعة أعداد الجريدة الصادرة وتصيَّد ما وقع فيها من أخطاء مطبعية لا تسْلَم منها جريدة فوضع تحتها خطوطا باللون الأحمر وأخذ يحاسبنا عليها. وطغى في تأويل توجهات بعض المقالات فثرت على ما صدر منه وعبت عليه أن يفضل أسلوب الانتقاد لعملنا على تشجيعنا والتنويه بما فعلناه. وهنا هددت بالانسحاب من الحزب إذا لم تتغير أساليب عمله وكان الاجتماع في بيتي فلم أملك أن أنسحب منه محتجا.

* أفهم من كلامك أن مشاكل حزب الشورى والاستقلال لم يكن وراءها فقط حزب الاستقلال بل عوامل داخلية أيضا؟

ـ هو كذلك. كنا نشكو من مضاعفات القمع الذي كان ينزل بقاعدة الحزب ومن خطر تهديدنا في أرواحنا كما كنا نشكو من قيادة غير منسجمة. وكنت واحدا من المجموعة التي كانت تتطلع إلى أن تتوفر للحزب هيكلة جديدة تتلاءم ومقتضيات المرحلة المؤلمة التي كنا نجتازها.

وأذكر أن عبد القادر بن جلون الذي كان يشغل منصب نائب الأمين العام للحزب، وبعد أن حضر المشادة التي ألححتم عليَّ للكشف عن أسبابها عرض عليَّ أن نعمل معا لتغيير قيادة الحزب قائلا: «أعلم أنني لا يمكن أن أكون الأمين العام للحزب لأن القاعدة غير مستعدة لذلك. فما رأيك في تَسَلُّمِك قيادة الحزب؟ فقد استطلعتُ رأي عدد من أطر الحزب ووجدت عندهم الاستعداد لقبولك والعمل تحت قيادتك وأنا ألتزم أن أتعاون معك». فقلت له: «هذا ليس من أخلاقي. ولا أستطيع بكل صراحة أن أفعل ذلك، لأن للوزاني حرمته عندي ومكانته الوطنية ولا أود المس بهما. وعمَلٌ من هذا النوع هو انقلاب على الشرعية التي لا نسعى لتقويضها بل فقط لإصلاحها».

* بعد تكوين الحكومة الثانية التي لم يشارك فيها حزب الشورى والاستقلال، بدأ حزب الاستقلال يُلوِّح بعد فترة قصيرة بورقة الاستقالة من الحكومة، وبعث برسالة إلى الملك محمد الخامس حدد فيها موقفه من مبارك البكاي، اتهم فيها هذا الأخير بالتعامل مع الحركة الشعبية والعمل على تحطيم وحدة الحكومة. كيف نظرتم آنذاك إلى هذا الموقف الاستقلالي؟

ـ حزب الاستقلال كان يؤمن أن أفضل الحكومات هي الحكومة المنسجمة التي ينفرد فيها هو بالحكم. ولذلك كان يرغب في تشكيل حكومة منسجمة يريدها -كما قال عنها- قوية قادرة على مواجهة الأزمات وحل المشاكل التي كانت تعاني منها البلاد.

* بعد رسالة حزب الاستقلال إلى محمد الخامس التي تحَفَّظ فيها على البكاي قدم هذا الأخير استقالته. فهل كانت استقالة البكاي برغبة منه أم بطلب من القصر؟

ـ لم يكن للبكاي حزب يسنده. وحين أصبح الأمر مسألة معركة بين قوى حزبية كان يعرف أنه لا يملك أن ينتصر فيها. وأعتقد أن البكاي أدرك أنه لو رأس حكومة غالبيتها من حزب الاستقلال فسيكون رئيس حكومة لا وزراء له داخلها. لذلك قد يكون استخلص النتائج لنفسه واستقال واتفق مع الملك على مغادرة الحكومة.

* في عام 1957 وقع تمرد عدي وبيهي محافظ (عامل) إقليم قصر السوق (الراشدية حاليا). ما هي حقيقة وأسباب هذا التمرد؟

ـ عدي وبيهي كان ينتمي إلى النزعة القبلية والعالم القروي قبل كل شيء ولم تكن له ثقافة. والتمرد الذي قام به على الحكومة أثار غضب حزب الاستقلال عليه، زيادة على كونه لم يكن يسمح لأعضاء هذا الحزب بالقيام بأنشطة حزبية في محافظته (عمالته) فعُزِل من منصبه وحُكِم عليه بالسجن ثم بالإعدام. لكنه طوَّر حركة معارضته للحكومة وقفز منها إلى التورط في حركة تمرد غير شرعية لم يَحْسُب لعواقبها حسابها مما لم يسع القصر الملكي معه سوى عزله من منصبه واعتقاله وتقديمه للمحاكمة أمام القضاء.

* ما حقيقة ما قيل من أن عدي وبيهي كانت لديه رغبة في إقامة جمهورية أمازيغية في المغرب؟

ـ هذا غير صحيح. إن الملكية في المغرب لم تكن في وقت من الأوقات موضوع نزاع أو خلاف بين المغاربة . كان المغاربة على اختلاف نزعاتهم يرون في النظام الملكي رابطة توحيد المغرب ورمز الشرعية التاريخية. وازدادت الملكية شعبية بعد ثورة الملك والشعب وعودة السلطان إلى عرشه حاملا الاستقلال والحرية.

وكان وبيهي معروفا بولائه للعرش وتعلقه بشخص الملك. وكان الأمر كذلك فيما يخص البطل المجاهد عبد الكريم الخطابي حينما كان يكافح الاستعمار الفرنسي والإسباني في منتصف العشرينيات من القرن الماضي. وكانت فرنسا تدُسُّ له لدى السلطان مولاي يوسف وتقول إنه متمرد على العرش وثائر وطامع في إقامة جمهورية . وكانت الإقامة العامة تنعته بـ«الروكي» أي المتمرد على شرعية الملكية. والاتهام بـ«الروكية» والتمرد على السلطان والخروج عن طاعة «ولي الأمر» معروف في التاريخ المغربي هي تهم تتجدد وتتنوع أشكالها بحسب حقب التاريخ. فكل من كان يراد المس به كان يُتَّهَم بالروكية أو التمرد على السلطان وإحداث الفتنة أو الإلحاد أو سب الدين.

* بصرف النظر عن الاتفاق مع أفكار عدي وبيهي أو الاختلاف معها هل تعتقد أن وبيهي كان شاعرا بما يفعله أم أنه كان مجرد صنيعة مدفوعة من جهات معينة؟

ـ أنا لم أتعرف عليه قط، وإن كانت له اتصالات مع بعض قادة حزب الشورى والاستقلال. أعتقد أنه كان يمثل التفكير القبلي المتحجر، ولم يتأقلم مع عهد تنظيم الحكم وكانت له غريزة التعلق بالسلطة. وهي التي دفعته إلى الجرأة على التمرد على الحكومة بأساليب مخالفة للقانون وغير مقبولة في النظام العصري.

وعندما كان يقال إن حزب الاستقلال يريد أن يستأثر بالحكم والسلطة ويكون الولاة والوزراء منه وحده كان ذلك يثير لدى بعض رجال السلطة وخاصة رجال القبائل حزازات أو مخاوف كانت تدفعهم إلى مناهضة الحكومة. وعدي وبيهي أبعد في المعارضة إلى حد الخروج على القانون.

* ما هو دور ولي العهد آنذاك في إخماد تمرد عدي وبيهي؟

ـ قام ولي العهد بدوره بوصفه المكلف الدفاع الوطني والساهر على أمن البلاد بانب والده، بمعنى أنه قام بما كانت تلقيه عليه المسؤولية من أعباء ببالغ الحزم ومنتهى الصرامة. وبالفعل نجح في إخماد الاضطرابات. ولا أظن أنه كان يؤمن بأنها ثورات ضد والده. بل كان يؤمن بـأنه لا يمكن أن يجتمع في سياق واحد بين منطق مسؤولية الملك وبين منطق الثورة والإخلال بالاستقرار. وكان وفيا لهذا المبدأ وواعيا بدوره فيه. كما أنه كان بحكم منصبه عدوا لكل اضطراب وفوضى، ومؤمنا بأن الأسبقية يجب أن تُولىَ لاستتباب الأمن وتثبيت الاستقرار. وبطبيعة الحال كان منطقيا أن يناهض من يدخلون في صراع مع الحكومة التي تستمد شرعيتها من ثقة والده الملك.

* وما مدى تأثير الحسن اليوسي على وبيهي للقيام بتمرده؟

ـ اليوسي كان في أول الأمر متضامنا معه ورفَضَ المساسَ به وعزْلَه من منصبه وإلقاء القبض عليه. وكان يشغل منصب وزير التاج وهما معا كانا ينتميان إلى ثقافة واحدة. ولم يكن اليوسي ليقبل أن تُمَس الباديةُ في شخص أحد ولاتها وقادتها. وكان يرى نفسه حليفا موضوعيا لقادة العالم القروي التاريخيين ومن بينهم وبيهي. لكن اليوسي عندما لاحظ أن وبيهي تجاوز حدود المعارضة تبرأ منه بعد أن اتصل به هو والشيخ محمد بن العربي العلوي وزير التاج أيضا في مدينة ميدلت(الاطلس المتوسط).

* في سنة 1959 حُكم بالإعدام على وبيهي. بيد أنه مات مسموما في زنزانته. فمن هي في نظرك الجهة التي كانت وراء قتله؟

ـ بكل موضوعية لا أستطيع أن أرد على سؤالك. فأنا أجهل كل شيء عن ظروف وفاته. على كل حال لقد عقَّدت وفاته الأمور. قد يكون الرجل مات موتا طبيعيا إذ ربما لم يتحمل الإهانة التي تعرض لها. ومن أجل التعلق بالسلطة مات الكثيرون من رجال السلطة عندما فقدوها بمجرد تنحيتهم عن السلطة فأحرى إذا حُكم عليهم بالإعدام وكانوا ينتظرون الموت. وفي المغرب تتردد حكمة معروفة تقول: «الكَلْمةُ روح». كانت هذه الحكمة تقال عن سلطة المخزن التي كان يُطلَق عليها اسم الكَلْمة أي الكَلِمة، لأنه لا أحد كان يُعزَل أو يُعيَّن في منصب بقرار مكتوب. كل شيء كان يتم بالكَلْمة: «اعزلوا هذا، ضعوا في السجن هذا، صادروا أموال ذاك». فكان صاحب الكلمة هو صاحب السلطة. فالسلطة والكلمة مترادفتان في لغة المخزن (الحكومة القديمة) وفي عهد سيادة الأمية. وكان بعض رجال السلطة إذا فقدوا الكلمة فقدوا الحياة لسبب أو آخر.

* تشكلت الحكومة المنسجمة في مايو (ايار) 1957، واستمرت حتى 3 ديسمبر (كانون الثاني) 1958. وضمت أغلبية الوزراء الاستقلاليين ووزيرين مستقلين هما عبد المالك فرج وزير الصحة، والبشير بن العباس وزير الشغل. ما هي خلفية الاكتفاء بوزيرين مستقلين فقط في الحكومة؟

ـ عبد المالك فرج كان وزيرا للصحة في الحكومة الأولى التي شاركتُ فيها. ذو ثقافة فرنسية، وله تصورات ثورية إلى حد ما. لكنه هو والبشير بن العباس التعارجي كانا قريبين إلى حزب الاستقلال. وكان الحزب يعتبرهما من فصيلته السياسية. في الحقيقة كانت الحكومة منسجمة بصرف النظر عن كون اثنين من أعضائها لم يعلنا عن انتمائهما إلى حزب الاستقلال.

* بعد تشكيل الحكومة المنسجمة كيف نظرتم في حزبكم إلى استجابة القصر لمطالب حزب الاستقلال ؟ هل اعتبرتم ذلك «تكتيكا» من القصر أم عملا استراتيجيا ستبرز نتائجه فيما بعدُ عكس ما كان يتوقعه حزب الاستقلال؟

ـ نحن لم نفاجأ بنهاية المسلسل إلى حكومة منسجمة على رأسها الأمين العام لحزب الاستقلال. كنا نعرف أن المسلسل ابتدأ منذ خروجنا من الحكومة الأولى، وأن النهاية ستكون الحكومة المنسجمة. وربما عندما استقبلَنا الأمير ولي العهد مولاي الحسن بوزارة الدفاع الوطني ـ كما ذكرتُ لك من قبل ـ وقال لنا: «اخرجوا إلى الخارج إن شئتم أو انتظروا ....» كنا نفهم أن الأمور تتجه إلى إرضاء حزب الاستقلال فيما يطالب به من الاستفراد بالحكم. لذلك لم يكن إسناد رئاسة الحكومة إلى أحمد بلافريج مفاجأة لنا.

بيد أن تشكيل الحكومة المنسجمة ألقى على حزب الاستقلال مسؤولية صعبة لأنه دخل مرحلة اختبار لقدرته على تحمل الحكم وحده. وربما يكون القصر قد اضطر إلى الاستجابة لمطلبه ليضعه في هذا الاختبار العسير. وكانت النتيجة أن الأزمات اشتدت أكثر مما كانت عليه، وأن الحكومة واجهت الكثير من الصعوبات والأزمات حتى إنه يقال إن محمد الخامس لم يكن راضيا عن أسلوب أدائها، وأنه أطال المكث خارج البلاد احتجاجا على بعض التصرفات ولم يعد إلى المغرب إلا بعدما ألحت عليه الحكومة للتعجيل بالعودة وبعثت إليه الوسطاء.

* يقال إن القصر ربما ناور حينما عين بلافريج وزيرا أول. وقيل وقتذاك إن بلافريج كان ولاؤه بالدرجة الأولى للقصر قبل ولائه للحزب. فما تعليقك؟

ـ لست مطلعا على أسرار حزب الاستقلال. فهو الوحيد الذي يعلم أسراره وأهل مكة أدرى بشعابها. بيد أني قرأت ما قلتَه فيما كُتِب عن تلك المرحلة وعن أوضاع حزب الاستقلال فيها. ومع ذلك فما تزال المعلومات لم تتوفر لمن يريد أن يقوم بتحليل نقدي وموضوعي للوقائع التي عرفتها المرحلة.

وبالنسبة لكلمة «يناور» التي استعملتَها أنا لا أستعملها وبكل إنصاف وموضوعية في حق الملك محمد الخامس. فهو لم يكن مناورا بما قد تفيده الكلمة من تحايل ومكر، لكنه كان يحكم ويختار من أساليب الحكم ما يرسِّخ وحدة المغرب حول العرش . وكل ما هناك أنه حصل فعلا ما كان يمكن أن يحصل. إذ تبين أن انسجام الحكم ليس هو الحل الوحيد لمشاكل المغرب ولا العصا السحرية لإخراجه من الأزمات. لذلك كان عمر الحكومة المنسجمة قصيرا، وتم النداء على علال الفاسي أوَّلا لتشكيل حكومة لم تر النور، ثم على عبد الله إبراهيم لتشكيل حكومة جديدة.

بقي أن أضيف إلى أن تمحص الحاج أحمد بلافريج لخدمة القصر لم يتم في عهد الملك محمد الخامس بل في عهد الملك الحسن الثاني وخاصة بعد أن تفاقمت الفجوة بينه وبين علال الفاسي رئيس الحزب، تلك الفجوة التي تجلت في انسحابه ـ وهو الأمين العام للحزب ـ من المؤتمر العام للحزب احتجاجا بعد أن ألقى خطابه.

* قبل تشكيل حكومة عبد الله إبراهيم اندلعت ثورة الريف. فهل كانت أحداث الريف بوحي من محمد عبد الكريم الخطابي؟ وهل كانت موجهة ضد الحكم المركزي الذي كان يجهل خصوصيات المنطقة فارتكب أخطاء إدارية؟ أم كانت الثورة موجهة ضد حزب الاستقلال؟ وكيف عولجت أزمة الريف؟

ـ لم تقم ثورة الريف للإطاحة بالملكية بالمغرب أو التمرد عليها. منطقة الريف كانت مهمَّشة في عهد حكومات الاستقلال، زيادة على ارتكاب خطأ فَرْضِ اللغة الفرنسية على منطقة الشمال وتنحية اللغة الإسبانية التي كانت الثانية في المنطقة الخليفية(الشمالية) بعد العربية. كما لم يلتحق بعد الاستقلال بالحكومة والسفارات والدوائر الحكومية مواطنون من هذه المنطقة.

الحكومات المغربية المتوالية تصرفت كما لو كانت المنطقة الخليفية إنما أُدمِجت في المنطقة السلطانية (الجنوبية) دون مراعاة لخصوصياتها. ومما لا شك فيه أن هذه السياسة (أو اللاسياسة) طالت منطقة الريف أيضا وكان لسكانه رد فعل عنيف إزاءها.

حوادث الريف كانت احتجاجية لإسماع صوت الريف المهمَّش المنسِيّ . ولم يكن الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي ضالعا فيها لسبب وحيد هو أنه تولى قبل أحداث الريف بنفسه تكذيب التهمة الموجهة إليه بأنه ثار على النظام الملكي وذلك عندما استقبلني في سنة 1950 بمنزله بالقاهرة وأدلى إليَّ بحديث نشرته في كتابي «ذكريات وشهادات ووجوه». وهو حديث احتفظتُ به لأنه لم تكن لنا عندما تلقيته منه صحف لنشره. قال فيه: «إن منطقة الريف لم يكن لها مطلقا أي نزوع للتمرد على سلطة السلطان. وأن الثورة التي قادها في منتصف العشرينيات من القرن العشرين كانت للتحرر والانعتاق من سلطة الأجنبي. والدليل على ذلك أنه حارب استعمارين كان من الممكن أن يستفيد من تأييد أحدهما ضد الآخر. ولكنه حاربهما معا في آن واحد. ولم يكن له حقد على الملك أو على الملكية بل قال إن الثورة كانت لتحرير المغرب من حمايتي فرنسا وإسبانيا معا». لذلك فأنا أبرئ الخطابي من أن يكون ضالعا في حركة التمرد التي وقعت في الريف أو مُحرِّضا عليها. ثم إن الخطابي وأعضاء أسرته زاروا الملك محمدا الخامس بالقاهرة أثناء زيارته الرسمية لمصر قبل اندلاع أحداث الريف وجددوا له البيعة ملكا على المغرب وارتبطوا معه بعهد وميثاق وماتوا على الولاء للعرش والإخلاص للملك.

* خلال نفس الفترة تم الإعلان عن تشكيل الحركة الشعبية بزعامتي المحجوبي أحرضان وعبد الكريم الخطيب وتم منعها بقرار حكومي. وتلا ذلك اعتقال أحرضان والخطيب في "أَجْدير في أكتوبر1958. كيف نظرتم آنذاك إلى تشكيل هذا الحزب الجديد؟

ـ كنا سعداء لأن التعددية الحزبية التي كنا نؤمن بها أصبحت أكثر من تعددية ثنائية. لذلك رحبنا بالحركة الشعبية وتعاونا معها ضمن هيأة التنسيق والتشاور التي جَمعَتْنا. وكانت تضم حزب الشورى والاستقلال والحركة الشعبية وشخصيات مستقلة كان من بينها البكاي، وحضرها مرة أحمد رضا كديرة نائبا عن الأحرار المستقلين. وقد عقدت هيأة التنسيق هذه اجتماعا لها مرة ببيتي بالدار البيضاء في ظروف سياسية صعبة بالنسبة لنا جميعا. وكنا في هذه الفترة نعاني الاضطهاد ومهدَّدين بمخاطر بما فيها اغتيالنا. وقد حضر إلى هذا الاجتماع الحسن اليوسي وحمل لي معه صدريةً واقية من الرصاص أهداها لي وكان يحمل مثلها فكنت أحملها طول فترة تهديدنا بالاغتيال.

* بعد تشكيل الحكومة المنسجمة سرعان ما بدأت التناقضات الداخلية داخل حزب الاستقلال تبرز. هل لك أن تعطي لنا صورة عنها؟

ـ سأقول لكم ما قد لا تصدقونه. عندما كنا نسمع عن أزمة التناقضات التي فجرت حزب الاستقلال شقين كنا نحن في حزب الشورى والاستقلال نمر بأزمة ذاتية شبيهة حدثتكم عن بعض مظاهرها من قبل . فكما كانت قيادات في حزب الاستقلال تنتقد الزعامات التاريخية، كان لنا نفس التوجه في حزبنا. كنا لا نريد أن يكون لزعيم حزبنا سلطة مطلقة على الحزب. وكنا نتقَزَّز من كلمة «الزعيم» التي كنا نرى فيها مرادفا لكلمة «الفوهرير» الألمانية. وبالفعل تجاوزنا نحن ـ قبل حزب الاستقلال عندما أسسنا حزب الشورى والاستقلال ـ مرحلة تنصيب الزعيم على قمة الحزب. وحتى كلمة رئيس تجنبناها فأصبح لحزبنا أمين عام له نائب. أما في حزب الاستقلال فقد استمرت لفترة غير قصيرة ازدواجية وجود علال الفاسي كرئيس للحزب وأحمد بلافريج كأمين عام له.

وكانت قد جرت بيننا وبين النزعة التي يمثلها عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة اتصالات ابتدأتها شخصيا بواسطة عبد الحي العراقي الذي كان يمثل حزب الشورى والاستقلال في المجلس الاستشاري الذي كان يرأسه بن بركة. وكان بن بركة يُسِرُّ إلى بعض محدثيه بما وصلت إليه الأمور داخل حزب الاستقلال، ويعيب على قيادته الانفراد بسلطة القرار وتمجيد الزعماء وعدم قبول الأحزاب الأخرى. آنذاك ابتدأت داخل حزب الاستقلال أزمة التناقضات التي بقيت سرا ولم تطْفُ على السطح. وعندما كانت تبلغني أصداؤها كنت أقارنها بما كان يجري داخل حزبنا وأجدها تؤلف قاسما مشتركا بيننا وبين الجماعة الاستقلالية التي كانت تعمل للتغيير. وفعلا لم يكن أحد يتصور أن أبعث برسائل شفوية إلى المهدي بن بركة أو يبعث لي رسائل بواسطة عبد الحي العراقي ونحن في جو القطيعة. لقد كانت بيننا فجوة يصعب ردمها. إلا أننا كنا نحس أن شيئا ما في طريقه إلى المخاض داخل حزب الاستقلال. وكنا أيضا نتطلع إلى مخاض آخر في حزبنا قبل أن تلتقي جهودنا مع النزعة الجديدة في حزب الاستقلال على العمل المشترك. وهذا ما سهل الأمر علينا.

وأظن أن الذي زاد الشرخ تفاقما داخل حزب الاستقلال هو تولي فصيلة منه برئاسة عبد الله إبراهيم مقاليد الحكومة مما أصبح معه الحزب يعارض نفسه. ولا شك أن الملك محمدا الخامس كان على إطلاع على أزمة حزب الاستقلال، وأنه أراد أن يحقق التناوب على الحكم بين فصيلتيه.

* كيف وصل عبد الله إبراهيم إلى رئاسة الحكومة؟ وما هي ظروف تشكيلها؟

ـ أظن أن عبد الله إبراهيم كان مرشحا من السيد المحجوب بن الصديق الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل (اتحاد عمالي) وكان بينهما تعاطف ما يزال ممتدا إلى اليوم . وكان بن الصديق من الثائرين على الزعماء التقليديين لحزب الاستقلال. وكان المطروح هو تشكيل حكومة استقلالية بديلة لكن بوجوه أخرى غير الزعماء التقليديين أمثال بلافريج وبن عبد الجليل، ومحمد اليزيدي، مع الاحتفاظ بزعيم آخر كان آنذاك من الشباب التقدميين هو عبد الرحيم بوعبيد الذي عين نائبا لرئيس الحكومة ووزيرا للاقتصاد الوطني فقدم الاتحاد المغربي للشغل اسم عبد الله إبراهيم لرئاسة الحكومة. وكان يرى فيه صورة النقابي الملتـزِم أكثر مما يرى فيه صورة الحزبي التقليدي.

* بالإضافة إلى دعم بن الصديق، كيف كان القصر الملكي ينظر إلى عبد الله إبراهيم وقتذاك؟

ـ كان القصر الملكي ينظر إليه نظرة عطف. فالرجل هادئ الطبع يهمس أكثر مما يرفع الصوت. وهو من السياسيين الذين كانوا يتميزون بسعة الأفق والقدرة على حسن التعايش. ولم يكن متطرفا ولا يُعلَم عنه أنه تورط في أحداث أثناء الأزمة التي قامت بين حزب الاستقلال من جهة، وحزب الشورى والاستقلال والحركة الشعبية من جهة ثانية. لقد كان مسؤولا عن فرع حزب الاستقلال في مراكش، وعُرِف بتعايشه مع جميع ممثلي الأحزاب الأخرى بأدب ولطف وبنوع من التفاهم الذي يوحي بالاطمئنان إليه. وبالتالي كان اختياره على رأس الحكومة اختيارا صائبا. ربما لم يكن له آنذاك معرفة جيدة بشؤون الاقتصاد، لكن حكومته كانت معزَّزة بالسيد عبد الرحيم بوعبيد الذي ربما كان يرى نفسه الأحق برئاسة الحكومة، ولكن عُوّض له عن ذلك بتوليه منصب نائب الرئيس، ووزير المالية والاقتصاد، خاصة وقد أُدمِجت في وزارة الاقتصاد مجموعة وزارات كانت مستقلة في الحكومات السابقة مما جعله يُمسِك بعصب الحكومة.

* هل تعتقدون أن تعيين عبد الله إبراهيم رئيسا للحكومة كان يدخل ضمن استراتيجية القصر لإبراز تناقضات حزب الاستقلال ؟

ـ القصر الملكي كانت له سياسته. وكان يعرف ما يريد. وما كان يصدر عنه لم يكن اعتباطا، إلا أنني لا أميل إلى اعتبار تعيين عبد الله إبراهيم مناورة للتفريق أو لتشتيت الصفوف داخل حزب الاستقلال. فصف حزب الاستقلال لم يكن مرصوصا عندما نودي على عبد الله ابراهيم لرئاسة الحكومة.

* الملاحظ أن حكومة عبد الله إبراهيم تم فيها لأول مرة تعيين عسكري وزيرا للبريد، هو الكومندان محمد المدبوح. فما هي خلفيات تعيينه؟

ـ ربما كان تعيينه يتلاءم مع مقتضيات طبيعة المرحلة. إذ ظل المغرب في حالة هيجان واضطراب لمدة. واختار الملك للتغلب عليها سياسة الحزم. فقد يكون الملك قد قصد من تعيين عسكري كبير في الحكومة الإشارة إلى أن الحكومة ستسلك سبيل الحزم للقضاء على الاضطرابات والفوضى. علما أن المدبوح ينتمي إلى منطقة هيجان آنذاك، ووجوده في الحكومة يعني إنهاء عهد تهميش مناطق الاضطراب.

وينبغي أن نلاحظ أن الملك لم يُسَلِّم إلى نزعة عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد وحدها أمر الحكومة، إذ جاءت تضم عناصر محسوبة على القصر الملكي كان من بينها زيادة على العسكري المذبوح كل من محمد عواد في وزارة الدفاع الوطني، وإدريس المحمدي وزير الداخلية، ومحمد باحنيني وزير العدل والكاتب العام (الامين العام) للحكومة، ووزراء آخرين لم يكن بعضهم منخرطا في حزب الاستقلال وبعضهم الآخر كان جَمَّد نشاطه فيه.

* هل لكم أن تقولوا لي ما لحكومة عبد الله إبراهيم وما عليها؟

ـ لم أشارك في حكومة عبد الله إبراهيم ولا أعرف عنها إلا ما أعلنته هي نفسها عن نشاطها. وقد كنت في عهدها في صميم العمل السياسي الوطني بطبيعة الحال. وكان لي اتصال غير مباشر (أو من بعيد) مع النزعة التي أصبحت تُعرَف بالجناح اليساري لحزب الاستقلال وكانت تريد إدخال التغيير على هيكلة وتوجهات حزب الاستقلال والتي عُرفت بعد هذا بحركة (أو انتفاضة) 25 يناير (كانون الثاني) 1959. وكنت أعلم عن الحكومة أنها مطمئنة إلى سند الملك، وأنه راض عن تصرفاتها وسلوكها. ومع ذلك فهذه الحكومة لم يكن لها سند قوي. فحزب الاستقلال كان يعارضها، والأحزاب الأخرى كانت تعتبرها مجرد طبعة مكررة أو منقحة للحكومة المنسجمة. وقد انتهت مهمتها عندما طلب الملك محمد الخامس من عبد الله إبراهيم أن يستقيل.

* وما هي إيجابيات حكومة عبد الله إبراهيم؟

ـ إيجابياتها أنها حاولت أن تتصالح مع الشعب. فهي لم تأخذ الحكم من منطلق أنها القوة السياسية الوحيدة التي يجب أن تأخذ السلطة وتستأثر بها. وكان ذلك تحولا كبيرا. وهي قبلت أن تشارك في الحكومة مع عناصر غير منتمية ولم تعارض في تعيينها على رأس وزارات حيوية وحساسة لم يُطلَق عليها آنذاك اسم وزارات السيادة ولكنها اعتُبِرت كذلك. وفي الوقت نفسه أخذت الحكومة تتصل بالقوات السياسية التي كانت تناوئ حزب الاستقلال وتعمل لاكتساب تأييدها. وأكبر ما ميز حكومة عبد الله إبراهيم الذي كان أيضا وزير الخارجية انفتاحها على أفريقيا والجامعة العربية وحركة عدم الانحياز، وتدابيرها الاقتصادية الشجاعة التي كانت ترمي إلى تحرير الاقتصاد من التبعية الفرنسية والتي كان عبد الرحيم بوعبيد منظِّرها ومطبِّقها.

* في عهد حكومة عبد الله إبراهيم تم حظر الحزب الشيوعي. فما هي خلفيات هذا الحظر؟ هل جاء من الحكومة أم من القصر خاصة أن الملك محمد الخامس كان دائما يَحْذَر من العَلْمانيين؟

ـ الحظر لا يمكن أن ينسب إلى الملك محمد الخامس وحده. فتدبير سياسي مثل هذا لا يصدر إلا باتفاق الملك ورئيس الحكومة.

المعروف عن الحزب الشيوعي أنه حزب عَلْماني ورث بنياته من الحزب الشيوعي الفرنسي وأطلق على نفسه اسم الحزب الشيوعي المغربي. وأظن أنه صدرت عنه غداة حله مقالات كانت تحمل طابع المجازفة وتجاوزت الحدود فأدين بسببها وعجلت بحله.