ضرب المرأة: هل يحل الخلافات الزوجية

TT

إن قضية ضرب المرأة كوسيلة لحل الخلافات الزوجية، قضية تثير كثيرا من الخلافات والمشاعر، خاصة في الأوضاع الثقافية والحضارية المعاصرة. وتحتاج الى تدقيق وتحرير في ظل الثوابت والمتغيرات.. فهل الى هذا سبيل؟ في هذا المقال سنحاول ان نعيد النظر ونحرر البحث لنهتدي الى روح التوجيه الاسلامي في هذا الأمر.

واذا كنا بصدد النظر في موضوع «الضرب» وما يستتبعه من مشاعر المهانة والأذى البدني، فاننا بادئ ذي بدء، نعلم كقاعدة أساسية نفسية عامة، ان الأذى والخوف والارهاب النفسي تورث السلبية والكره والانصراف، وان الحب والتكريم والثقة تولد الايجابية والاقبال والبذل. كما اننا نعلم ايضاً ان الأمة قد عانت وما تزال تعاني من ممارسات العسف والاذلال وثقافة الوصاية والاستبداد، بحيث انه في كثير من مجتمعاتنا لا يقتصر العسف والتسلط والاستبداد على زبانية السادة والحكام، بل ان ذلك ليس إلا جزءاً من ثقافة الأمة العامة، نراه بين «المعلم» و«صبي المعلم» و«المدرس» و«التلميذ» و«الكبير» و«الصغير» و«الرئيس» و«المرؤوس» و«الرجل» و«المرأة» لتشمل في مجملها ودلالاتها الاجتماعية «القوي» و«الضعيف»، كل قوي وضعيف في المجتمع، وذلك على عكس مفاهيم الاسلام في «الاخاء» والتضامن «كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، و«كالجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر البدن بالسهر والحمى»، حيث ان «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، بحسب امرئ من الشر ان يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام ماله ودمه وعرضه. ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الله». وتثور قضية «الضرب» في ترتيبات العلاقة الأسرية والانسانية بشكل حاد، وتأخذ موقعاً خاصاً حيث انه وردت الاشارة اليها في نص قرآني، ولأن تأويلاتها التاريخية والتراثية انصرفت وانصرفت افهام الناس وممارساتهم فيها الى معاني اللطم والصفع والصفق والجلد وما شابهه وما يستتبع ذلك من مشاعر الألم والمهانة، بغض النظر عن قدر المهانة ومدى هذا الألم او الأذى البدني، الذي قد تتراوح الفتاوى فيه بين الضرب «بالسواك» وما شابهه، «كفرشاة الاسنان» و«قلم الرصاص»، وذلك في ما روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه حين سأله عن معنى «الضرب غير المبرح»، فيكون «الضرب» هنا اقرب الى التأنيب والتعبير عن عدم الرضا والغضب بين الأزواج، اكثر منه تعبيراً عن معاني المهانة والأذى، وفي الجانب الآخر نجد بعض الفتوى من تقول بالضرب بحد اقصى بما دون الأربعين، «ولا قصاص بين الرجل وامرأته إلا في الجرح والقتل». والنص القرآني الذي يتعرض لموضوع «الضرب» هو الآية الرابعة والثلاثون من سورة النساء في قول الله سبحانه وتعالى: «الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريد إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً» النساء: 34 ـ 35.

فاذا نظرنا الى مجمل الآيات في هذا الشأن وفي ضوء مجمل الشريعة وفي ضوء القدوة النبوية نجد ان جوهر العلاقة الزوجية هو مشاعر «المودة» ورفق «الرحمة» وواجب «الرعاية»، ويظل حاكم العلاقة الزوجية دائماً هو «المودة والرحمة والاحسان». لذلك يصبح من المفهوم لدينا لماذا يثور التساؤل عن معنى «الضرب» بمعنى الايلام والمهانة وعن موقع ذلك من مفهوم العلاقة الاسلامية الزوجية وبالذات في ترتيبات تمكين الألفة والمحبة بين الأزواج وحل خلافاتهم، خاصة حين يؤخذ في الحسبان واقع العلاقات الاجتماعية في المجتمع المسلم المعاصر وما يتعرض له بعض النساء من ممارسات التسلط والقسوة المادية والمعنوية، وبسبب بعض ما يردد اعتسافاً من منطوق الفتاوى التراثية التي تبالغ في اطلاق سلطة الرجل في ادارة شؤون أسرته باعتباره رأس الأسرة متجاهلين ان مؤسسة الأسرة يجب ان تقوم على التواد والتكامل والتعاون والتكافل، لا يصح ان يساء فهم دلالات النصوص وان تستغل لكي تصبح المرأة والأسرة أشبه بالقطيع المملوك.

لا يمكن ان يكون القهر و«الضرب» وسيلة مقصودة لارغام المرأة على غير ارادتها ورغبتها على المعاشرة، كما ان «الضرب» على أي حال من الاحوال ليس وسيلة مناسبة لاشاعة روح المودة بين الزوجين وليس وسيلة مناسبة لكسب ولاء اطراف العلاقات الحميمة وثقتها. واذا نظرنا الى الترتيبات التي وردت في الآية الكريمة من سورة النساء السابق ذكرها، والتي هدفت لاصلاح ذات البين بين الزوجين حين تطل من الزوجة روح النشوز والتمرد والعصيان، ورفض العشرة الزوجية، نجد هذه الترتيبات على شقين:

الشق الاول: يتعلق بحل اشكال النشوز والخلاف بين الزوجين، ومن دون تدخل من طرف ثالث ويتم ذلك على ثلاث خطوات هي: 1 ـ عظوهن 2 ـ اهجروهن 3 ـ اضربوهن.

والشق الثاني: حين يفشل الزوج داخل نطاق الاسرة ومن دون تدخل طرف اجنبي في حل الخلاف واستعادة روح الوئام وعودة الزوجة الى كنف زوجها وطاعته في ما هو من خاصة علاقاتهم الزوجية، فإن على الزوجين ان يلجآ الى خاصة اهلهم للنظر في ما بينهم من شقاق واسباب ذلك الشقاق ودواعيه للحكم في الامر ونصحهم وارشادهم وعونهم على لم شملهم واصلاح ذات بينهم (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من اهله وحكما من اهلها ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما ان الله كان عليما خبيرا). النساء: 35.

ويأتي السؤال هنا: ما الذي يمكن فعله ليؤدي بالزوجين الى ادراك خطورة الامر وتدبر العواقب قبل ان يخرج النزاع بين الزوجين عن نطاق الزوجية وخصوصية علاقتها، ليطرح النزاع والشقاق امام طرف ثالث: «حكم من اهله وحكم من اهلها» لكي ينظر طرف الاهل الثالث في ما شجر من الامر بين الزوجين، وينصح لهما بما يصلح الحال ان شاءا، أو يكون بينهما فراق بالمعروف والاحسان. وهكذا فإن الخطوة التالية في خطوات حل النزاع والشقاق بين الزوجين داخل نطاق الاسرة هو «الضرب»: (.... واضربوهن فإن اطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا). النساء: 34. وهو ما يعنينا هنا فهمه ودلالاته ضمن اطار اصلاح ذات البين بين الزوجين حين يدب النزاع والشقاق بينهما وتعصي وترفض الزوجة عشرة زوجها رغم «الوعظ» وابداء الغضب من قبل الزوج «بهجر المضجع».

والسؤال: ما معنى «الضرب» هنا؟! هل هو اللطم أو الصفع أو الجلد أو سوى ذلك من الوان الضرب المؤدي الى الألم والأذى الجسدي والمهانة النفسية والذي يهدف الى قهر المرأة، واخضاعها للمعاشرة كرها، وعلى غير رغبتها؟!، واذا كان الامر كذلك فما هي الغاية من ذلك الاخضاع؟! وهل مثل هذا القهر والاخضاع بوسائل الألم والمهانة يعين نفسيا على توليد مشاعر المحبة والرحمة بين الازواج، ويحكم صلات الولاء والانتماء بينهما، ويقوي دوافع العفة وحفظ الغيب، ويحمي كيان الاسرة من الانهيار والتفكك؟! هل «الضرب» بمعنى اللطم والألم والأذى الجسدي والنفسي من الوسائل التي تقوي عوامل رغبة المرأة في البقاء في الاسرة والحفاظ عليها؟! وهل يمكن لهذا «الضرب» ان يقهر المرأة المسلمة المدركة لحقوقها وكرامتها الانسانية كما تشيعها ثقافة العصر، أو ان يرغمها ذلك على البقاء في اسر الزوج وعسفه وكريه عشرته، وهو لا يتورع ان ينالها بالضرب والمهانة، أم ان لها في الاسلام مخْرجاً مُيسّراً من هذا الاسر، بالخلع والمفارقة. فإذا لم يكن «الضرب» بمعنى الأذى والايلام الجسدي والمعنوي ـ والذي يتخذ بعض الرجال الاشارة اللفظية القرآنية إليه مبررا وتعلة للجوء إليه في قسوة ضد المرأة استغلالا للظروف التي قد تجبر بعض النساء على الصبر بسبب الحاجة المادية أو الخوف على الابناء ـ مما يعتبر وسيلة ايجابية تتسق والدوافع القرآنية في بناء الاسرة وعلاقاتها الصحيحة، وتؤدي الى كسب ولاء المرأة ومحبتها وحرصها على البقاء ضمن كيان الاسرة والعلاقة الاسرية، فهل المعنى المقصود في القرآن الكريم فعلا بكلمة «الضرب» هو الإيلام والأذى الجسدي والاهانة لكي تخضع المرأة للرجل، وتنقاد على كره منها لرغباته؟! إذا كان للمرأة حق «الخلع» فلا شك ان «الضرب» والإيلام والمهانة لا مجال له في العلاقة الزوجية وقهر المعاشرة، بل انه يضعف الروابط الاسرية ويدفعها ويسرع بها الى التفكك والانهيار، ولذلك فإنه من الضروري النظر في الامر بعمق وإدراك دلالاته وابعاده الحقيقية قبل القول بأن ذلك هو المقصود منه على اي صورة من الصور. فإذا نظرنا الى طبيعة الترتيبات القرآنية حين تحدثت عن «الضرب» فإننا نجدها تهدف الى ان تدفع بجهود الصلح والتقارب بين الزوجين خطوة أخرى لازالة الشقاق بأفضل السبل التي تعيد اواصر المحبة والود والتواصل الحميم بين الزوجين قبل ان يضطرا الى عرض نزاعهما على طرف اجنبي عن العلاقة الزوجية من الاهل طلبا لاصلاح ذات البين وحل النزاع بالحسنى، اما بالوفاق أو الفراق. فإذا كان لا يبدو ان للعنف والاذى والقهر مجالا في العلاقة الزوجية وحل اشكالاتها، فما هو القصد اذاً من تعبير «الضرب» في السياق القرآني بصدد ازالة اسباب الشقاق الزوجي وحل خلافاته؟! وقد احصيت وجوه المعاني التي جاء فيها لفظ «الضرب» ومشتقاته في القرآن الكريم فوجدتها على ثمانية عشر وجها كما يلي: «وضرب الله مثلا» (وقد تعدد هذا التعبير في اماكن كثيرة في القرآن الكريم) النمل 76. «وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة» النساء: 101. «فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا» الكهف: 11. «أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين» الزخرف: 5. «كذلك يضرب الله الحق والباطل» الرعد: 17. «وليضربن بخمرهن على جيوبهن» النور: 31. «ان اسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا» طه: 77. «وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله» البقرة: 61. «فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان» الأنفال: 12. «وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث» ص: 44. «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب» محمد: 4.

«فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب» الحديد: 13. «ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن» النور 31. «فكيف اذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم» محمد: 27. «فقلنا اضرب بعصاك الحجر» البقرة: 60. «فراغ عليهم ضرباً باليمين» الصافات: 93.

فإذا امعنا النظر في الآيات السابقة كافة نجد فيها معنى العزل والمفارقة والابعاد والترك، فالشيء يُضرب مثلا أي يستخلص ويميز حتى يصبح جليا واضحاً، والضرب في الأرض هو السفر والمفارقة، والضرب على الأذن هو منعها عن السماع، وضرب الصفح عن الذكر هو الإبعاد والإهمال والترك، وضرب الحق والباطل تمييزهم وتجليتهم مثلا، وضرب الخمر على الجيوب هو ستر الصدر ومنعه عن الرؤية، وضرب الطريق في البحر شقه ودفع الماء جانباً، والضرب بالسور بينهم عزلهم ومنعهم عن بعضهم بعضا، وضرب الذل والمسكنة عليهم نزولها بهم وتخييمها عليهم وصبغهم وتمييزهم بين الناس بها، وضرب الأعناق والبنان بتره وفصله وابعاده عن الجسد، أما باقي ما ورد من كلمة «الضرب» ومشتقاتها في ما سبق من ضرب الأرجل وضرب الوجوه وضرب الحجر وضرب الضغث وضرب الأصنام باليمين، فهي بمعنى الدفع بقوة والخبط واللطم ضد جسد الشيء ارضا أو وجها أو حجرا او انسانا أو صنماً لاحداث الأثر باحداث الصوت أو الايلام والمهانة أو تفجير الحجر (لاخراج الماء) أو تحطيم (الأصنام). وهكذا فإن عامة معاني كلمة «الضرب» في السياق القرآني هي بمعنى العزل والمفارقة والابعاد والدفع فما هو المعنى المناسب لكلمة «الضرب» في سياق فض النزاع بين الزوجين واستعادة روح المودة والتواصل بين الزوجين في قول الله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فان اطعنكم فلا تبتغوا عليهن سبيلا ان الله كان عليما خبيرا، وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من اهلها ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما ان الله كان عليما خبيرا) النساء: 34 ـ 35.

وهذا الفهم لمعنى «الضرب» بمعنى المفارقة والترك والاعتزال تؤكده السنة النبوية الفعلية حين فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوت زوجاته حين نشب بينه وبينهن الخلاف ولم يتعظن واصررن على عصيانهن وتمردهن رغبة في شيء من رغد العيش، فلجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الى «المشربة» شهراً كاملاً تاركاً ومفارقاً لزوجاته ومنازلهن، مخيرا اياهن بعدها بين طاعته والرضا بالعيش معه على ما يرتضيه من العيش والا انصرف عنهن وطلقهن في احسان (عسى ربه ان طلقكن ان يبدله أزواجاً خيراً منكن) التحريم: 5. وهو عليه أفضل الصلاة والسلام لم يتعرض لأي واحدة منهن خلال ذلك بأي لون من ألوان الأذى الجسدي أو اللطم أو المهانة بأي صورة من الصور، ولو كان الضرب بمعنى الأذى الجسدي والنفسي أمراً إلهياً، ودواء ناجعاً لكان عليه السلام أول من يبادر اليه ويفعل ويطيع. وهكذا حين رأت الزوجات جد الأمر وغضب أهليهن وقد افتقدن العشرة النبوية الرضية، كان ذلك كافياً ليعدن الى صوابهن ويدخلن في طاعته والقناعة بالعيش الى جانبه على ما يحب ويرضى.

ولذلك فإنني أرى أن المعنى المقصود بـ «الضرب» في السياق القرآن بشأن ترتيبات اصلاح العلاقة الزوجية اذا اصابها عطب ونفرة وعصيان هو مفارقة الزوج زوجته وترك دار الزوجية، والبعد الكامل عن الدار كوسيلة اخيرة لتمكين الزوجة من ادراك مآل سلوك النفرة والنشوز والتقصير في حقوق الزوجية ليوضح لها ان ذلك لا بد ان ينتهي الى الفراق و «الطلاق» وكل ما يترتب عليه من آثار خطيرة خاصة لو كان هناك بينهما اطفال. ان معنى الترك والمفارقة أولى هنا من معنى «الضرب» بمعنى الإيلام والأذى الجسدي والقهر والاذلال النفسي لأن ذلك ليس من طبيعة العلاقة الزوجية الكريمة ولا من طبيعة علاقة الكرامة الانسانية، وليس سبيلا مفهوما الى تحقيق المودة والرحمة والولاء بين الأزواج، خاصة في هذا العصر وثقافته ومداركه وامكاناته ومداخل نفوس شبابه، ولأن هذا المعنى كما رأينا تؤيده السنة النبوية الفعلية كوسيلة نفسية فعالة لتحقيق أهداف الإسلام ومقاصده في بناء الأسرة على المودة والرحمة والعفة والأمن، ومحضنا أمينا على تربية النشء روحيا ونفسيا ووجدانيا ومعرفيا على أفضل الوجوه لتحقيق السعادة وحمل الرسالة.

* رئيس المعهد العالمي للفكر الاسلامي ورئيس مؤسسة تنمية الطفل في الولايات المتحدة