لجنة ميتشل ستقلب الحقائق

TT

مرت بالشعب الفلسطيني في حياته النضالية العديد من اللجان متعددة الاشكال والالوان، وذلك منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين ومنحه اليهود وعد بلفور عام 1917 الامر الذي ادى الى بداية المقاومة الفلسطينية وبالتالي تدخل عصبة الامم ثم الامم المتحدة لحل هذه القضية، علماً بأن فلسطين وضعت تحت الانتداب البريطاني بهدف واضح علني هو تأهيل الشعب لحكم وادارة نفسه والتحاق فلسطين في الحظيرة الدولية. موجز القصة ان بريطانيا العظمى اخلت بالامانة بالتربيع، منحت اليهود وعداً في فلسطين مقابل خدمتهم لها، ثم سهلت وصولهم الى فلسطين ومنحتهم الارض واعطهم الحماية وقمعت الفلسطينيين. وكان الاخلال الثالث لامانة الانتداب انها لم تنفذ أي توصية من اللجان الدولية في الصالح الفلسطيني خصوصاً توصية وقف الهجرة اليهودية، وبالطبع انسحبت بريطانيا بعد ان مكنت اليهود من الفلسطينيين، دون ان تنفذ غاية الانتداب، او حتى تنتظر تطبيق قرار التقسيم الصادر عن الامم المتحدة الذي كان قمة الظلم للعرب وجاء كنتيجة لتوصية لجنة دولية لم تر حلاً الا بالتقسيم وهو القرار الدولي الوحيد الذي قبله الصهاينة وطبقوه واستولوا على اكثر مما خصص لهم.

في الاسبوع الجاري حطت لجنة جديدة رحالها في فلسطين يقودها السيناتور الاميركي جورج ميتشل... وجاء وصول اللجنة متأخراً اسابيع عن موعدها المفترض، وسنجد ان غايتها تغيرت، ومن شبه المؤكد انها ستخدم اسرائيل عملياً ولن يطبق أي شيء ايجابي للفلسطينيين... نقول ذلك بناء على التحوير والمماطلة التي حدثت في اللجنة منذ اتخذ قرار تشكيلها في اجتماع شرم الشيخ إثر اندلاع انتفاضة الاقصى وبعد فشل اجتماع كامب ديفيد. كانت اللجنة مطلباً فلسطينياً للتحقيق في الاسباب المباشرة لاندلاع الانتفاضة (زيارة شارون للاقصى بدعم وحماية وتأييد من باراك)، والتحقيق في خلفيات الانتفاضة (عدم تقدم عملية السلام)، ووضع توصيات لازالة العوائق وضمانة تنفيذ التوصيات، أي وجود مرجعية تطبيق للجنة الدولية. عندما تأخر تكوين اللجنة نتيجة للرفض الاسرائيلي تقدم الفلسطينيون للامم المتحدة مباشرة لارسال قوة حماية دولية للشعب الفلسطيني، وبالطبع أكدت واشنطن انها ستعارض هذا القرار، فتفتق الذهن البريطاني عن قوة مراقبين غير مسلحين قوامها ربما الفا نفر على غرار قوة المراقبين في الخليل، ولكن (طبعاً) مثل هذه القوة تحتاج الى موافقة من الطرفين لانها قوة غير مسلحة وتحتاج حماية الاطراف المتنازعة حتى تراقب وتكتب التقارير وتصور الصور وترسلها الى رفوف وادراج الامم المتحدة تماماً كما تفعل قوة مراقبة الخليل التي لم تؤد تقاريرها ولا حتى الى قرار ادانة واحد. لجنة التحقيق التي طلبها الفلسطينيون اصبحت لجنة تقصي حقائق، وقوة الحماية تحولت الى قوة مراقبة دون مرجعية مثل المحقق دون قضاء ودون تنفيذ للاحكام لو وجدت اصلاً. الفارق كبير جداً بين لجنة للتحقيق تصدر حكماً يلزم بتطبيقه كل من وافق على اللجنة، ولجنة تقصي حقائق تكتب تقريرها وترسله للرئيس الاميركي فقط، الذي عليه ان يقرر نشر التقرير ام لا! وسواء نشر التقرير بارادة ورغبة الرئيس ام لم ينشر فلا يوجد الزام لتطبيق التوصيات الا اذا كانت طبعاً ضد الطرف الفلسطيني، فحينها سيشتغل الضغط والحصار. نقل اخيرا عن مسؤولين كبار في الادارة الاميركية تعجبهم من رفض اسرائيل لعمل اللجنة بعد ان حُور وقُيد عملها بما لا يضر اسرائيل ابداً... وربما اطمأن الجنرال باراك اخيرا لاهمية التحوير في اللجنة فقرر استقبالها بنفسه وبترحاب لان رؤيته تطابقت مع رؤية رئيس اللجنة الاميركي (الرئاسة الاميركية كانت من الشروط الاسرائيلية). فالسيناتور جورج ميتشل يقول ان الطرفين كانا قد اقتربا كثيراً من الحل في اجتماع كامب ديفيد، وينوه بوضوح ان هدف اللجنة هو تقريب وجهات النظر واعادة الطرفين الى طاولة المفاوضات. وهذا بالذات ما يريده الجنرال الان في ظل ازمته الداخلية... يريد ضرب الفلسطينيين دون حماية او اعتراض دولي مبدياً رغبته في السلام وجرهم الى المفاوضات لقبول عروضه التي طرحها في الكامب، فاذا وافق المفاوض الفلسطيني عليها ستطرح على الناخب الاسرائيلي قبل اعتمادها... وعملياً سيخوض باراك الانتخابات بهذا المضمون لتطبيق السلام حسب ما ورد في الكامب. بهذا المضمون فاللجنة تعمل لصالح باراك كونها ستدعم العودة للمفاوضات، ولن تشجب اسرائيل حتى لا يضر ذلك بالمفاوضات المنشودة! انني اتوقع مخاطر اكبر نتيجة لاعمال هذه اللجنة التي تحولت عن هدفها الاساسي بالتحقيق ثم التقصي الى الوساطة التفاوضية، فاللجنة حتى تشجع العودة للتفاوض سوف توزع مبررات «العنف» على الطرفين، وتدعي ان الخسائر تصيب الطرفين، وسترى ان الحل هو بالعودة للمفاوضات، وستطالب بأهمية الحل الوسط في قضية الخلافات التي حدثت في المفاوضات الاخيرة (كامب ديفيد)، وتقترح تنازلات من الطرفين، مثل «تنازل» اسرائيل وفلسطين عن السيادة على ساحة الحرم القدسي، وفي المقابل تنازل فلسطين عن حق العودة للاجئين... وهكذا من المقترحات حول المطالب الحالية التي تشكل السقف الاسرائيلي والارضية الفلسطينية. هنا يجب الانتباه الى ان الشرعية الدولية ضاعت، والحقوق الفلسطينية اهدرت بالقوة وبضغط القتل والتجويع امام العالم... لن تتحدث اللجنة عن حقيقة الاحتلال ووجود قرارات دولية لازالة الاحتلال، ولا عن مخالفات اسرائيل لقرارات الامم المتحدة وانتهاك حقوق الانسان، ولا عن المستوطنات ومخالفتها الشرعية الدولية، ناهيك عن ممارسة سكانها للارهاب... ولن ننتظر من اللجنة ان تشجب اسرائيل على ممارسة سياسة العقاب الجماعي من اغلاق للمناطق وفصل المدن عن بعضها وعزل الريف وانتاجه الغذائي عن سكان المدن وقطع الكهرباء ومنع وصول الوقود، ولا نتوقع كلمة واحدة عن قنص الاطفال، اللهم الا ربما اتهام السلطة بارسال الاطفال للموت من القناصة لتسويد سمعة اسرائيل في العالم... باختصار، لن تعود القضية قضية احتلال وتخلص من الاحتلال حسب الشرائع الدولية، وانما ستصبح قضية تنازع على ارض الضفة والقطاع والحرم القدسي الشريف، وبالطبع حل التنازع يكون بتوزيع الاشياء والمسؤوليات بين الطرفين. في ظل هذه الظروف سيتمسك باراك باللجنة ومقترحاتها وسيوافق ايضاً على ارسال قوة المراقبة غير المسلحة، اذ سيعتبر انه اعطى الفلسطينيين درساً في العقاب عما سيحل بهم مادياً ودبلوماسياً، وسيعطي لهذه اللجنة صفة الدولية ليرتكز عليها ضد القرارات العديدة السابقة من الامم المتحدة، واذا رفض الطرف الفلسطيني اعمال ونتائج هذه اللجنة سيصبح الفلسطيني مخالفاً للشرعية الدولية. القوة الاسرائيلية تؤهل باراك لاعتبار ان الجديد يلغي القديم، وبالتالي لا حديث عن احتلال وانما عن تنازع بين قوي وضعيف في اجواء دولية مترهلة تقبل بفرض الامر الواقع. المخرج الاساسي من هذه الدوامة القادمة هي ان تصر السلطة الفلسطينية على تصحيح مسار اللجنة عبر خطوات مدروسة مثل الطلب من اللجنة مراجعة توصيات اللجان الدولية المشابهة السابقة بشأن فلسطين منذ بداية الانتداب البريطاني، وعلى الاقل مراجعة توصيات اللجان التي حضرت لفلسطين إثر المظاهرات والهبات والثورات الفلسطينية ضد الانتداب والاخرى ضد الصهيونية، وهي اشبه بهبات وانتفاضات اليوم رغم تغير الواقع السياسي. مراجعة توصيات واعمال تلك اللجان تضع لجنة ميتشل في الاطار التاريخي الصحيح وتحديد من هو المخالف التاريخي. من الخطوات الاخرى المطلوبة للتعامل مع اللجنة ايضاح المواقف لها على الارض ميدانياً بزيارات المخيمات واسر الشهداء والجرحى في المستشفيات، واثار القصف الجوي، ومواقع المستوطنات وتقطيع اوصال الضفة والقطاع خدمة لمرور حفنة مستوطنين، واعمال التجريف للارض. بعد ذلك يجب تسليم اعضاء اللجنة تفاصيل مخالفات اسرائيل للقانون الدولي وقرارات الامم المتحدة وتنكرها للاتفاقيات الموقعة وذلك في مرحلة الانتفاضة الحالية فقط، مثل اعادتها لاحتلال مناطق خاضعة للسلطة الفلسطينية، واستعمال الاسلحة الثقيلة والعقاب الجماعي وتصعيد الاستيطان..الخ. ومن المهم حتماً تقديم جدول الخسائر المادية الفلسطينية من جراء الهدم والقصف والحصار الاقتصادي، وجدول بالخسائر المعنوية بداية بارهاب الاطفال في بيوتهم ومدارسهم حتى تعطيل التعليم والحياة بكل جوانبها... اما أهم ما يجب فعله اثناء التعامل مع هذه اللجنة فهو وضعها امام السؤال: هل الضفة والقطاع والقدس اراضي فلسطينية محتلة بالقوة من اسرائيل وتعارض الشرعية والمقررات الدولية ام لا؟