مصر وليبيا

TT

كانت الطائرة متجهة إلى طرابلس، وكان الوقت نهاية عام 1990، ولم يكن قد مر على غزو العراق للكويت سوى أسابيع قليلة، وتحولت القاهرة وقتها إلى ميدان صحفي رئيسي يضم صحفيين من كل بقاع الأرض. كانت على متن تلك الطائرة مجموعة كبيرة منها مدعوون في مؤتمر صحفي للعقيد القذافي. وجاء مقعدي إلى جانب أحمد قذاف الدم، وكانت المرة الأولى التي التقيته فيها، فقد قرأت اسمه عدة مرات أيام السادات مقروناً دائماً بمحاولات تخريبية مدعاة، وبدأت معه حواراً امتد طيلة الرحلة، واكتشفت فيه سياسياً من الطراز الرفيع، مؤمناً بأفكاره ويصارح بها حتى لو كانت مغايرة للاتجاه العام، قادراً على الحوار ومتفتحاً لقبول الآراء الأخرى ومحاججتها. ولم أتمكن من منع نفسي وقتها، أن أسأله عن قصة الأعمال التخريبية التي نسبت إليه في السبعينات، وكانت اجابته ضحكة عالية قائلا: «فتشني».

العلاقات المصرية ـ الليبية شهدت في مرحلة نهاية الثمانينات وبداية التسعينات نقلة هائلة في مستواها وعمقها، والأهم من ذلك قدرتها على تفادي المشكلات وحلها، وقدرتها أيضاً على التطور في وجه مقاومة واضحة من أطراف خارجية وداخلية أيضاً، تلك الفترة المزدهرة كان وجود قذاف الدم كمسؤول عن هذا الملف المهم، ملف العلاقات المصرية ـ الليبية سببا رئيسيا فيها. وقد تمكن في تلك الفترة من أن يمتلك شبكة من العلاقات الرسمية والشعبية فاقت التصور، واستغل هذه الشبكة الواسعة لهدف أساسي هو دفع وتطوير هذه العلاقات، وكان ذلك لا يأتي بسبب كونه مسؤولاً رسمياً عن هذه العلاقات، لكنه كان يأتي نابعاً عن قناعة حقيقية وايمان ـ أؤكد صدقه ـ بأهمية هذه العلاقات وحتمية تطويرها ودفعها للأمان من أجل صالح الشعبين، بل الشعب الواحد كما يعتقد.

وكان يتهم من الكثيرين بأنه مصري الهوى وهو لم ينف ذلك، وفاخر دائماً بوجود قطاع من عائلته يقطنون غرب مصر.

هذا الايمان بأهمية هذه العلاقات هو الذي دفعه دوماً للتدخل في كل كبيرة وصغيرة تتعلق بها، ولم يكن غريباً أن يتدخل مرات عديدة، حضرت بعضها، من أجل حقوق عامل مصري بسيط تاه في ليبيا أو طالب ليبي في مأزق بالقاهرة.

في منتصف التسعينات ترك قذاف الدم ملف العلاقات الليبية ـ المصرية، وصاحبت خروجه ضجة افتعلها البعض، وعلى الرغم من ذلك، لم يتراجع اهتمامه لحظة في البحث دوماً عن أساليب لدفع هذه العلاقات وتطويرها، أو نزع فتيل أية مشكلة يمكن أن تتسبب في تفجير هذه العلاقة التي تعرضت للكثير من العواصف ومحاولات اعاقتها.

استحضرت العديد من الصور والمواقف المرتبطة بهذه العلاقات وبدور قذاف الدم فيها، عندما علمت الأسبوع الماضي، أن الرئيس مبارك والعقيد القذافي اتفقا على تسمية قذاف الدم كمنسق عام للعلاقات المصرية ـ الليبية، واستبشرت خيراً بأن هذا الاختيار المصري ـ الليبي، سوف يكون عنصراً أساسياً في تطوير هذه العلاقات ودفعها للوصول إلى المستوى المفترض لها أن تصل اليه، فلم يعد هناك من مخرج سوى ايجاد صيغة مصلحية تجمع بين الشعوب المتجاورة، وأظن أن المصريين والليبيين أكثر تأهلاً لمثل هذا الارتباط، خاصة مع وجود الارادة السياسية لدى قيادتي البلدين، وتوفر عناصر مؤمنة وفاعلة مثل قذاف الدم.

[email protected]