كل شيء في الحمام

TT

كان شكسبير قد قال ان العالم كله عبارة عن مسرح. نحن لا نعرف المسرح وليس له مكانة في تراثنا. وعليه وباذن ذلك الشاعر العملاق سأقول العالم كله عندنا حمام. لا احد يعرف ان معظم مقالاتي، بما فيها هذه الحلقة قد اختمرت في ذهني في الحمام. لا شيء في ادبنا العربي عن المسرح ولكنه مليء بحكايات الحمامات. الواقع انها مما يميز مجتمعنا الشرقي عن المجتمع الغربي. فالغربي يأخذ الحمام لوحده، ومن هنا جاءت روحه الانعزالية. نحن تقليديا نأخذ الحمام مع الآخرين في حمام السوق. وهكذا حياتنا الاجتماعية.

ولكل منا ذكرياته عن الحمامات، لم تعتد عائلتي للذهاب الى حمام السوق. كنا نستحم في البيت. وكان هذا في طفولتي عملية عسكرية. فهي تتطلب ايقاد نار الحمام. اقتضى هذا جلب الحطب. كان ذلك مهمتي. ثم اضرام النار في الحطب وكان ذلك مهمة اخي مؤيد. ثم سحب الرماد من الموقد وكان ذلك مهمة اخي مظفر. وكان اخي موفق مسؤولا عن ضبط حرارة الماء. وكانت العملية تستغرق يوما كاملا. وفي اثنائه كانت والدتي تتوقف عن الطبخ ونعيش على الجبن والخيار. فعندها مهمة احضار المناشف واعداد الملابس وشعل المنقلة لتدفئة المستحمين بعد خروجهم من الحمام. يجلسون حول المنقلة يهنئون بعضهم البعض على الحمام. «نعيما» و«أنعم الله عليك» و«ابوس خدكم» ونحو ذلك من العبارات البليغة تلقى اثناء شرب شاي الدارسين لغرض تقوية الصدر. ثم نأكل بعض البرتقال ليصفي الدم ويصلح الكبد.

يوم في الاسبوع على الاكثر ليلة الجمعة. استعدادا لصلاة الجمعة. لم يكن في اسرتي احد يصلي، كمعظم العراقيين، ولكن لليلة الجمعة حرماتها، وعلى رأسها اخذ حمام. وهكذا اعتدت على الحمام الاسبوعي. مرة في الاسبوع. واصبح هذا من التقاليد القليلة التي اتمسك بها واحترمها. وحتى بعد توفر الحمامات العصرية والماء الساخن 24 ساعة فانني واظبت على اخذ الحمام مرة واحدة في الاسبوع على خلاف ام نايل التي تأخذ الحمام يوميا. واصبح الموضوع قادسية ومبلدون بيننا. هي تعيرني على وساختي وأنا انتقدها على اضاعة الوقت والتبذير. وقع بيدي قبل سنوات مقال بقلم احد الاطباء يقول ان كثرة الاستحمام مضر لأنه يزيل المادة الدهنية الطبيعية التي تفرزها البشرة للمحافظة على طراوة الجلد واتقاء الجراثيم. والآن كلما عانت ام نايل من وجع رأس، بل وحتى وجع اسنان، اذكرها بما قاله ذلك الطبيب واعزي وجع الاسنان الى الاستحمام يوميا وما يترتب عليه من ازالة الدهون الطبيعية.

ولكنها في الاسبوع الماضي قلبت علي طاولة النزاع. جاءتني بتقرير منشور في الجريدة من مفتش السجون عن الأحوال السيئة في سجن وكفيلد والتي تطلبت تحقيقا خاصا من ادارة السجون الملكية (هكذا يسمونها في بريطانيا: ملكية) يذكر كمثال بارز للاحوال السيئة في ذلك السجن ان السجناء لا يستطيعون اخذ حمام الا مرة واحدة في الاسبوع. ارتني التقرير ثم قالت يا مسكين احوالك اسوأ من احوال هؤلاء الحرامية والنشالين الملقى بهم في السجون.

وهذا في الواقع هو الشيء الذي يخيفني في السجون ويجعلني اطيع القوانين والانظمة الرأسمالية. فأنا اخشى ان يجبروني هناك على اكثر من حمام واحد في الاسبوع ويحرموني من الاحتفاظ بالدهونات الطبيعية التي تفرزها بشرتي وابقتني على قيد الحياة كل هذه السنين رغم كل ما عانيته من مصائب العراق والعراقيين. والحمامات واحاديثها لا تنتهي فأعود اليها غدا ما لم ازلق في الحمام واكسر رجلي قبل ذلك.