إنجازات الانتفاضة التي غابت عن قمة العقبة

TT

ما هي الدوافع التي حركت حكومة إسرائيل لإعلان قبولها بخارطة الطريق، والذهاب من ثم إلى اجتماع قمة العقبة مع الرئيس الأميركي جورج بوش؟

السائد علنا في الإعلام، أن آرييل شارون فعل ذلك استجابة لضغط الرئيس الأميركي، وهذا أمر لا شك فيه، ولكنه أمر ينطوي على مغالطة في الفهم. فذهاب شارون إلى القمة استجابة للضغط الأميركي يوحي بأن شارون كان يتمنى لو أنه لم يذهب إلى القمة. والحقيقة أن شارون كان يريد القمة، وكان يريد التدخل الأميركي، ولكنه كان يعتقد أن عمق تحالفه مع الإدارة الأميركية، وكذلك عمق الصداقة الشخصية التي تربط بينه وبين الرئيس بوش، تتيح له أن يتطلع إلى تدخل أميركي يكون مطابقا للموقف الإسرائيلي من حيث الشكل والمضمون، أي تدخل أميركي يأتي حاملا سلفاً الموافقة على التعديلات الإسرائيلية الأربعة عشر على خارطة الطريق، وهذا أمر لم يحصل مباشرة، ولكنه حصل بطريقة غير مباشرة، حين قالت الإدارة الأميركية إن الخارطة لن تعدل، وان الإدارة الأميركية يمكن أن تلحظ طلبات التعديل الإسرائيلية أثناء المفاوضات. ثم حاول شارون أن يجر الرئيس بوش نحو نقطة لقاء ثانية، فقال إنه يوافق على خارطة الطريق حسب رؤية الرئيس بوش، وظن أن هذه الصيغة يمكن أن تعفيه من الموافقة المطلوبة على الخارطة، ولكن الإدارة الأميركية رفضت مرة أخرى وأفهمت شارون أن الموافقة على خارطة الطريق مطلوبة لذاتها، ومن أجل العلاقات الأميركية مع العرب، ومن أجل العلاقات الأميركية مع أوروبا وروسيا والأمم المتحدة، ومن أجل النفط. وحين لم تتوافر لشارون موافقة أميركية على صيغه، لم يجد أمامه سوى أن يذهب إلى العقبة حسب الصيغة الأميركية، فبدا الأمر وكأنه خسارة له. والواقع أن خسارة شارون هنا هي خسارة لـ«المزيد» الذي كان يتطلع إليه من وراء تحالفه مع الإدارة الأميركية، وحين لم تتحقق له هذه «الزيادة» بدا وكأنه يخسر. أما الموقف الأصلي، موقف الموافقة على خارطة الطريق، فهو يشكل نتيجة طبيعية لوضع شارون في مواجهته مع الإنتفاضة الفلسطينية، وهو وضع يشير بالوقائع إلى أن إسرائيل رغم قوتها العسكرية، ورغم قوتها الاقتصادية، بدأت تخسر قليلاً، وبدأت تخسر تدريجيا، في المواجهة مع الانتفاضة، واستمرار هذه الخسارة القليلة والتدريجية من شأنه أن يجر إسرائيل إلى وضع أسوأ بعد عام مثلا، أو بعد عامين، ولذلك كان لا بد في هذه اللحظة من مد اليد الأميركية لإنقاذ إسرائيل من مأزقها، وهذا ما حدث بالفعل في قمة العقبة.

قد يبدو هذا التحليل ذاتيا، أو مثاليا، أو حتى مجافيا لحقائق القوة الإسرائيلية على الأرض، أو لوقائع التدمير الإسرائيلي للمجتمع الفلسطيني، وربما يكون هناك كثيرون يرون أنني أقلب الحقائق، ولكن ما ذا لو تركنا المسؤولين الإسرائيليين يتحدثون عن الأمر بأنفسهم؟

لنبدأ بموضوع الأمن، وهو الموضوع الأبرز، ولنستمع إلى آفي بارنز الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية وهو يقول بعد القمة مباشرة «إن شارون مصمم على المضي قدما لأن قسما كبيرا من اليمين الإسرائيلي يدرك اليوم أنه ليس من الممكن تحقيق انتصار عسكري بنسبة 100% على الإرهاب، يمكننا تحقيق انتصار بنسبة 95%، لكن لوقف الإرهاب تماما والعيش بسلام مجددا مع الفلسطينيين، سيتحتم علينا التوصل إلى اتفاق سياسي» مع الفلسطينيين.

هل يوجد تصريح أوضح من هذا التصريح، يعترف بأن إسرائيل عاجزة عن تحقيق نصر عسكري على الانتفاضة الفلسطينية؟ وهل يوجد تصريح أوضح من هذا التصريح يؤكد ضرورة التوصل إلى اتفاق سياسي مع الفلسطينيين ما دام الحل العسكري غير ممكن؟ وهل يوجد تصريح أوضح من هذا التصريح لإظهار أن شارون ذهب إلى قمة العقبة كمصلحة إسرائيلية وليس خضوعا لضغوط الرئيس بوش فقط؟

ولننتقل إلى موضوع الاقتصاد، وهو الموضوع الأكثر تأثيرا في العادة على القرار السياسي، ولنستمع إلى الدكتور ميشيل ستاربيتسكي نائب رئيس قسم الأبحاث في بنك إسرائيل المركزي، يقول في محاضرة ألقاها في المؤتمر السنوي للمنظمة الإسرائيلية للاقتصاد «إن استمرار الأجواء الإيجابية في الأسواق المالية، وفرص تحرر الاقتصاد الإسرائيلي من الركود، منوط بإمكانية حدوث تغيير ملموس في الأوضاع السياسية ـ الأمنية». وهو يقول أيضا «إن الانتفاضة ألحقت الضرر بمستوى الدخل المتراكم للاقتصاد الإسرائيلي (بنسبة 10% من الناتج القومي وهو يوازي 50 مليار شيكل)، وسيؤدي خلق أفق سياسي إلى تقليص حجم الضرر إلى نسبة 3% من الناتج القومي». ويقدر ستاربيتسكي بأن الأفق السياسي سيساعد على تقليص العجز البنيوي في الميزانية الإسرائيلية الذي ازداد بسبب الانتفاضة، ويمكن للأفق السياسي، حسب رأيه، تخفيض العجز بمبلغ 15 مليار شيكل سنويا.

هل يوجد تحليل أوضح من هذا التحليل لتوضيح أثر الانتفاضة على الاقتصاد الإسرائيلي؟ وهل يوجد تحليل أوضح من هذا التحليل في توضيح حاجة إسرائيل إلى أفق سياسي لتحريك الاقتصاد الإسرائيلي من جديد؟ وهل يوجد تحليل أوضح من هذا التحليل لإظهار الدوافع التي حركت شارون لإعلان قبول خارطة الطريق والذهاب إلى لقاء العقبة؟

وإذا كان ستاربيتسكي مجرد رجل أكاديمي، فلنستمع إلى ما يقوله السياسيون، لنستمع إلى سيلفان شالوم الذي كان وزيرا للمالية ثم أصبح وزيرا للخارجية. إنه يقول «هناك علاقة مباشرة بين العملية السياسية والوضع الاقتصادي في الدولة، وأنا أتأمل أنه إذا تم استئناف العملية السياسية وتوقفت العمليات (الفدائية) فإن ذلك سيؤدي إلى تحسن الاقتصاد الإسرائيلي». لقد كان سيلفان شالوم الوزير الذي بدأ عمليات التقشف لمواجهة نتائج الأزمة الاقتصادية، ثم خلفه بنيامين نتنياهو الذي وضع خطة ثالثة لمزيد من التقشف، أفرزت إضرابات شاملة في إسرائيل قبل أن يوافق عليها الكنيست، وكان نتنياهو من بين الوزراء الأربعة الذين صوتوا ضد الموافقة على خارطة الطريق، وهو الوحيد الذي أعلن «أن الاقتصاد الإسرائيلي يمكن أن يتطور ويزدهر أيضا في واقع مواجهة عسكرية»، ولكنه اضطر مؤخرا الى أن يخفف من تصريحاته ويقول عند عرض خطته الإقتصادية للمناقشة «إن تحسين الوضع الأمني من شأنه أن يساعد الاقتصاد، إلا أن ذلك لا يعتبر شرطا ضروريا»!

إن ما يجمع بين هذا النوع من التصريحات، هو أنها تصدر عن أقطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف، ولو نحن ذهبنا إلى خصوم اليمين لوجدنا لديهم مواقف أوضح واقسى حول الآفاق المسدودة للمواجهة العسكرية مع الانتفاضة.

وعلى ضوء هذه الوقائع والاعترافات، نقول بكل أسف، ان أثرها كان غائبا عن الموقفين العربي والفلسطيني في قمة العقبة. لقد بدا الأمر وكأن العرب يعتذرون لإسرائيل عن مقاومة احتلالها، ويطلبون منها بلطف أن توقف عنفها وتدميرها حتى يستطيع الفلسطينيون التقاط الأنفاس. لم يوضح أحد أن إسرائيل تحتاج إلى الهدوء مثلما يحتاجه الفلسطينيون، ولم يوضح أحد أن الفلسطينيين رغم ضعفهم الشديد قادرون على إيذاء إسرائيل رغم قوتها. وحين غاب هذا الموقف السياسي الواضح والمبني على الوقائع والاعترافات الإسرائيلية، بدا الرئيس بوش وكأنه يفرض الشروط على الفلسطينيين والعرب، بينما بدت إسرائيل وكأنها تتعطف وتوافق مرغمة كرمى لعيون الرئيس الأميركي وحده.

هل سيتم إصلاح هذا الخطأ حين تتجدد اللقاءات والمباحثات والمفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية؟ ان خطة محمد دحلان للأمن (للقمع) هي الخطة الوحيدة التي ستعرض على الطاولة، لتشير إلى مدى الخطأ الفادح في فهم الوقائع على الأرض.